كانت المحكمة الألمانية مُحقة في إعلانها أن عمليات شراء السندات الحكومية للدول المتأزمة لا يمكن اعتبارها سياسة نقدية، وبالتالي فإن مثل هذه العمليات تعد تجاوزاً لسلطة البنك الأوروبي المركزي.

Ad

أصدرت المحكمة الدستورية الألمانية قرارها الذي طال انتظاره بشأن برنامج "المعاملات النقدية الصريحة" للبنك المركزي الأوروبي، فقد أتاح هذا البرنامج منذ إطلاقه في عام 2012 للبنك المركزي الأوروبي شراء كميات غير محدودة من السندات الحكومية بدول منطقة اليورو المتأزمة وقت الضرورة، شريطة خضوع هذه الدول لقواعد صندوق الإنقاذ الاوروبي أو آلية الاستقرار الأوروبية.

وقد طعن آلاف الألمان على برنامج المعاملات النقدية الصريحة أمام المحكمة الدستورية بدعوى أنه يخالف المادة (123) من المعاهدة الخاصة بعمل الاتحاد الأوروبي التي تحظر التمويل النقدي لحكومات منطقة اليورو، وأنه كذلك يفرض مخاطر حقيقية على المواطنين الألمان كدافعي ضرائب. والآن أعلنت المحكمة أنها تؤيد بشكل كامل حجج المدعين، وأن برنامج المعاملات النقدية الصريحة يخالف بالفعل القانون الأساسي للاتحاد الأوروبي.

لكن بدلاً من إصدار حكم رسمي مقيِد وملزم للبنك المركزي والبرلمان الألمانيين، كما كان مفترضاً، أحالت المحكمة القضية إلى محكمة العدل الأوروبية لإصدار حكم نهائي فيها. وللوهلة الأولى قد يبدو هذا مبشراً للأسواق التي تتوقع على الأرجح أن تقر محكمة العدل الأوروبية بسهولة برنامج المعاملات النقدية الصريحة، إلا أن الأمور ليست بهذه البساطة.

ذلك أن المحكمة الدستورية الألمانية لم تتنازل عن حقها في أن تكون لها الكلمة الأخيرة بشأن مدى توافق أفعال المؤسسات الأوروبية مع الدستور الألماني. وإذا وجدت أن محكمة العدل الأوروبية تفسر المعاهدة بطريقة تنتهك الدستور الألماني، فسيكون لها حينئذ سلطة إجبار الحكومة والبرلمان الألمانيين على إعادة التفاوض حول المعاهدة أو طلب إجراء استفتاء.

وعلى هذا، فمن المهم هنا ملاحظة أن المحكمة الدستورية الألمانية لا تطلب من محكمة العدل الأوروبية تحديد مدى توافق مشروع المعاملات النقدية الصريحة مع القانون الأساسي للاتحاد الأوروبي، وإنما تطلب تقييد البرنامج على النحو الذي يجعله متوافقاً مع معاهدات الاتحاد الأوروبي. وتشير المحكمة الألمانية في هذا الصدد إلى أن هذا قد يتطلب "تقييد شراء السندات الحكومية لدول بعينها"، مع ضمان عدم تَعَرُّض البنك المركزي الأوروبي لخطر الخسارة على مشترياته من السندات الحكومية.

وربما تُلمح هذه التوصية الثانية ضمنياً إلى مكانة أعلى للبنك المركزي الأوروبي مقارنةً بحاملي السندات الخاصة، كما حدث في مسألة الديون اليونانية عندما فُرِض على الدائنين تحمل جزء من الخسارة من أصل الديون المستحقة لهم. إلا أن ذلك قد يطيح مؤثرات برنامج المعاملات النقدية الصريحة المثبتة للاستقرار، التي تقوم على فرضية أن البنك المركزي الأوروبي- لا الذين يستثمرون بالقطاع الخاص- هو من يسدد الفواتير حال إعلان أي دولة إفلاسها. ولذا فإن ابتهاج المستثمرين في البداية بقرار المحكمة الألمانية قد لا يدوم طويلاً، الأمر الذي سيمهد الطريق لارتفاع الفوارق في أسعار الفائدة.

كما سيؤدي قرار المحكمة الألمانية بإحالة القضية إلى محكمة العدل الأوروبية إلى تثبيط فعالية برنامج المعاملات النقدية الصريحة، لأن البنك المركزي الأوروبي لن يجرؤ على شراء سندات حكومية قبل صدور حكم. والسبب بسيط: فمشروع المعاملات النقدية الصريحة لم يُفَعَّل قط، واستخدامه في هذا التوقيت قد يمنع محكمة العدل الأوروبية من رفض الطعن على أساس أن أي إجراء فعلي لم يُتخذ بعد.

أما بالنسبة لجوهر القضية، فقد كانت المحكمة الألمانية مُحقة في بيانها أن برنامج المعاملات النقدية الصريحة قد يؤدي إلى إعادة توزيع الثروة بشكل كبير بين الدول الأعضاء بمنطقة اليورو إذا تم الاحتفاظ بالسندات المكتسبة حتى وقت الاستحقاق. فخسائر الشطب على هذه السندات من شأنها أن تضر بدافعي الضرائب في بلدان أخرى بسبب تآكل أرباح وزارات المالية الوطنية من إقراض أموال مطبوعة محلياً (وهو ما يعرف بالفرق بين قيمة الأموال وتكلفة إنتاجها). ومن الواضح أن أي تحويلات مالية لازمة لمنع خسائر الشطب هذه من شأنها أن تلحق الضرر بدافعي الضرائب أيضاً.

صحيح أن حيلة البنك المركزي الأوروبي لتهدئة الأسواق بنقل خطر التوقف عن سداد الالتزامات من المستثمرين المتميزين إلى دافعي الضرائب المتكلين عليه صادفت النجاح، وأن مشروع المعاملات النقدية الصريحة يُعَد بمنزلة تأمين مجاني ضد أي تخلف عن السداد من قِبل دول جنوب منطقة اليورو، ويدعم بالتالي عودة تدفقات رأس المال الخاص إلى الأماكن التي بُددت فيها سلفاً، ولكن هذا غير كافٍ لإجازة البرنامج.

كذلك كانت المحكمة الألمانية مُحقة في إعلانها أن عمليات شراء السندات الحكومية للدول المتأزمة لا يمكن اعتبارها سياسة نقدية- وبالتالي فإن مثل هذه العمليات تعد تجاوزاً لسلطة البنك الأوروبي المركزي، إذ إن سياسة البنك التي تنص على كونه الملاذ الأخير للإقراض للوحدات السياسية الإقليمية داخل اتحاد للعملة، هي سياسة لا نظير لها في الولايات المتحدة الأميركية أو الكونفدرالية السويسرية على سبيل المثال، فإذا كان مجلس الاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي) في أميركا يشتري السندات الحكومية الفدرالية، فإنه لا يشتري سندات الولايات المتأزمة مثل كاليفورنيا وإلينوي.

ختاماً، كانت المحكمة مُحقة في اعتراضها على هدف البنك المركزي الأوروبي تخفيض علاوات سعر الفائدة على السندات الحكومية. ويوضح البنك المركزي الأوروبي هنا أنه يريد تحسين نشر السياسة النقدية. لكن علاوات سعر الفائدة تعد الآلية الرئيسية التي يمكن من خلالها تجنب تضخم الدين في منطقة اليورو. فإذا أفرطت الدول في الاقتراض فستنهار حينئذ احتمالية قدرتها على السداد، وفي المقابل سيطالب الدائنون بأسعار فائدة أعلى، وهذا بالتالي سيقلل من رغبة الدول في الاقتراض.

لقد نشأت الأزمة الاقتصادية في جنوب أوروبا من فقاعة الائتمان المتضخم الناجم عن غياب علاوات سعر الفائدة، وتسبب هذا في حرمان الدول المتضررة من قدرتها التنافسية، لذا فإن الفوارق في أسعار الفائدة -بما في ذلك العلاوات التي تعكس تصاعد خطر الخروج من منطقة اليورو وإعادة ضبط أسعار الصرف لاستعادة القدرة التنافسية- تشكل ضرورة أساسية لبقاء الاتحاد النقدي على المدى البعيد، وضمان استقراره وكفاءة توزيع موارده.

* هانز فيرنر سن | Hans-Werner Sinn ، أستاذ الاقتصاد والتمويل العام في جامعة ميونيخ، ورئيس معهد المعلومات والبحوث الاقتصادية (Ifo)

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»