عمّان تحت الصفر!

نشر في 27-12-2013
آخر تحديث 27-12-2013 | 00:01
 صالح القلاب في فترة سابقة تعود إلى نهاية ستينيات القرن الماضي، على ما أعتقد، قرأت قطعة أدبية جميلة لكاتب فرنسي، لم أعد، للأسف، أذكر اسمه، بعنوان "باريس تحت الصفر" تحدث فيها عن ضابط نازي سكن غرفة في منزل عائلة باريسية إبَّان الاحتلال الهتلري لفرنسا، حيث بقي أفراد هذه العائلة يرفضون التحدث معه ولو بكلمة أثناء فترة إقامته التي استمرت نحو ستة أشهر، وكانوا يواجهونه بنظرات ازدراء عندما كان يلقي عليهم تحية الصباح أو المساء.

وبعد ذلك بعدة أعوام قرأت رواية جميلة بعنوان: "نجران تحت الصفر" للروائي الفلسطيني المبدع يحيى يخلف تحدث فيها عن هذه المنطقة السعودية في أواخر خمسينيات القرن الماضي، حيث كان يعمل معلماً هناك وشاهد وعاش وعايش بؤس الأحوال وترديها وتخلفها قبل أن تشملها في السنوات اللاحقة الانطلاقة السعودية الهائلة والعظيمة، التي وضعت هذا البلد العظيم في مستوى الدول المتقدمة في العالم كله، تعليمياً وصحياً واقتصادياً واجتماعياً وفي كل شيء.

يوم الأحد الماضي مساءً ألحَّت عليَّ فضائية الـ"بي بي سي" العربية للمشاركة في برنامج في الذكرى الثالثة للربيع العربي، وقد أغراني وشجعني على المشاركة أنَّ مَن اتصل بي من لندن ذكر أنَّ محور الحديث سيكون حول كيفية صمود الأنظمة الملكية الثلاثة في الأردن والسعودية والمغرب في وجه عواصف هذا الربيع وأنوائه، وكيف خرجت من هذه التجربة أقوى وأكثر رسوخاً من ذي قبل، وحقيقةً هذا العنوان هو ما دفعني إلى قبول هذا العرْض المغري رغم أن عمّان كانت في ذلك المساء: "تحت الصفر"، وكانت مناطقها الغربية لا تزال تتدثر بأكوام هائلة من الثلوج التي بدأ سقوطها قبل عشرة أيام، وجعلت الأردن في معظم أجزائه كقطعة من "سيبيريا"، حيث هبطت درجات الحرارة في منطقة "الشوْبك" الجنوبية إلى نحو ست عشرة درجة مئوية تحت الصفر.

كنت أريد القول، لو أن الأقدار سمحت لي بالمشاركة في هذا البرنامج المشار إليه، إن هذه "الممالك" الثلاث قد صمدت في وجه رياح "الربيع العربي" العاتية لأنها تتمتع بشرعية لا تتمتع بها دول الانقلابات العسكرية، ولأنَّ المملكة العربية السعودية تعيش، منذ البدايات، سلماً اجتماعياً عززته الإنجازات الهائلة التي تحققت في السنوات اللاحقة على المستويات كافة، في حين أنَّ المملكة الأردنية الهاشمية والمملكة المغربية كانتا بدأتا مرحلة الإصلاح السياسي في وقت مبكر جداً، وأنهما تعاملتا مع هذا الربيع العربي بالمزيد من الإصلاحات، وبالابتعاد عن العنف، وباقتراب صاحب القرار من شعبه والاستجابة لمعظم تطلعاته ورغباته، بعيداً عن أساليب التحايل التي استُخدِمت في أنظمة "القادة الملهمين"! التي اشتُهِرت بأبشع أساليب البطش وبإهانة شعوبها وانغلاق الحاكم على نفسه، واللجوء إلى استخدام الرصاص والمدافع والعنف الأهوج منذ اللحظة الأولى.

خرجتُ من منزلي في الساعة السابعة والنصف مساءً تقريباً، وفجأة قبل أنْ أصل إلى سيارتي التي كنت أريد أن أستقلها بمفردي لأصل إلى مركز إرسال الـ"بي بي سي" الذي يبعد نحو ثلاثة كيلومترات وجدت نفسي في شارع متجمد تماماً، وهكذا مع أنني حاولت أنْ أمشي: "كما يمشي الوجي الوَحِلُ" إلا أنني انزلقت بتسارعٍ مُرعب ثم سقطت أرضاً كأنني أسقط من السماء السابعة... كان الشارع لزجاً وموحشاً وخالياً ومعتماً، وكانت المنازل منكمشة على نفسها بعدما أُغْلِقت أبوابها ونوافذها باكراً، فوجدت نفسي أتدحرج على جليد زجاجي وأنا أتأوه بصوت مرتفع من الخوف والوجع والفزع والوحشة.

كانت لحظات خِلتُها الدهر كله، ولأنني حاولت النهوض ولم أستطع، فقد كنت أخشى أن تداهمني سيارة أَرْعن عمياء خرج لتحدي الثلوج و"الانجمادات" فتهرسني ويسجل الحادث ضد مجهول... وفجأة رأيت شبحاً يسير نحوي بتوجس وخشية وخيفة... ناديت عليه بأعلى صوتي وناشدته أن يسعفني ويساعدني على النهوض... لقد كان أحد الأشقاء المصريين... وهرع نحوي بسرعة وأعانني على النهوض... وبقي يواسيني إلى أنْ أحسَّ أهل بيتي بما حصل فأخذتني زوجتي وهي تتنهد حرقة وفزعاً إلى أحد المستشفيات القريبة، وكان التشخيص الطبي أن هناك كسراً في ذراعي اليمنى وكدمات زرقاء داكنة في وركي اليمنى تمتد من أعلى حتى منطقة الركبة... لقد كانت ليلة مرعبة بالفعل، وتحلق الأطباء حولي وقرروا إجراء عملية جراحية في صباح اليوم التالي... لقد كانت عمّان فعلاً تحت الصفر!

back to top