لقد اشتعلت الثورات في أكثر من بلد عربي منذ مطلع عام 2011، واندلعت هبّات وانتفاضات عدة في بلدان أخرى، لكن كثيرين يشعرون أن تلك الثورات والهبات والانتفاضات لم تحقق أهدافها، بل إن هناك قطاعاً مؤثراً بين الجمهور والنخب يرى أن ذلك الحراك الجديد أدى إلى نتائج سلبية، وهو قطاع بات يعتقد أن ما بدا أنه "ربيع عربي" في أول الأمر، ما لبث أن تحول إلى "شتاء أصولي"، قبل أن ينحدر إلى "خريف وطني" في بعض الأحيان.
إن جزءاً كبيراً من الإحباط الذي ضرب قطاعاً من الجماعة الوطنية في الدولة العربية من جراء "تعثر الحراك الثوري"، أو "خطفه لمصلحة الفاشية الدينية"، أو "انتكاسه عن تحقيق أهداف الجماهير"، أو تحوله مصدر تهديد لـ"الأمن والاستقرار"، يرجع إلى أخطاء تم ارتكابها من قبل الثائرين أنفسهم، أو بسبب مؤامرات وأدوار دولية وإقليمية سلبية، لكن يبدو أيضاً أن بعضاً من هذا الإحباط يعود إلى ارتفاع سقف الطموحات والتطلعات لدى الشعوب والقوى الثورية.يبدو أن الفهم السائد لدى قطاعات كبيرة من جمهور الدول التي شهدت الحراك الثوري كان ينطلق من قناعة مفادها أن "إطاحة النظام المستبد الفاسد، تعني تحقيق أهداف الثوار مباشرة، والوصول إلى دولة العدل والرفاه والديمقراطية والحرية فوراً".إن عملية التغيير السياسي والاجتماعي عبر فعل ثوري عملية أصعب وأكثر تعقيداً مما يعتقد كثيرون.لن يكون بوسعنا العثور على الكثير من قادة الثورات الناجحة في المنطقة العربية، حتى نستطيع أن نستفيد من خبراتهم في إشعال ثورة، والوصول بها إلى بر الأمان، ثم تحقيق الأهداف الوطنية التي قامت الثورة من أجلها، لكن هذا الأمر متوافر في أوروبا الشرقية بكل تأكيد.فالعديد من الدول التي كانت تدور في فلك الشيوعية، وتخضع لهيمنة الاتحاد السوفياتي قبل انهياره، شهدت ثورات ناجحة، ومعظم تلك الثورات أثمر أنظمة أكثر ديمقراطية ونجاعة في الأداء.خلال هذا الشهر، أُتيحت لي الفرصة لزيارة وارسو، ضمن وفد إعلامي مصري، ولقاء بعض قادة الثورة البولندية، التي استطاعت تحقيق هدفها في إطاحة النظام الشيوعي في نهاية الثمانينيات الفائتة. أحد هذه اللقاءات كان مع الكاتب البولندي البارز ياتسيك جاكوفسكي، الذي كان معارضاً بارزاً للنظام البائد هناك.لقد أكد جاكوفسكي أن بولندا مازالت "تعيش في المرحلة الانتقالية"، رغم مرور 32 سنة على اندلاع ثورتها، و24 سنة على سقوط الحكم الشيوعي، وحذر الثوار في البلدان العربية من الاعتقاد أن الوصول إلى الديمقراطية مسألة يمكن أن تحدث في سنوات قليلة. أما أهم تلك اللقاءات، فقد كان مع المفكر والسياسي آدم ميشنك؛ وهو أحد المناضلين الذين شاركوا في الاحتجاجات التي شهدها هذا البلد ضد النظام الشيوعي.لقد كان ميشنك رفيقاً للزعيم العمالي، رئيس منظمة "تضامن"، ليخ فاونسا، حيث خاض معه الكثير من المعارك، التي قادت في النهاية إلى سقوط النظام الشيوعي، وبناء نظام ديمقراطي، حقق لبولندا العديد من الإنجازات على صعد مختلفة.كان ميشنك ملماً بمعظم ما يجري في بلدان الحراك الثوري العربية، من تطورات سياسية، وهو لم يكن مجاملاً على الإطلاق، حين قال لنا بوضوح: "الوضع في بلادكم صعب".لكن عدداً من الزملاء كانوا حريصين خلال اللقاء على طلب النصائح منه، باعتباره صاحب خبرة واسعة في العمل الثوري، ورؤية عميقة للانتقال الديمقراطي، فضلاً عن إلمامه الكبير بالواقع السياسي وإطاره التاريخي.وقد نصح ميشنك المصريين والعرب الذين تشهد بلادهم حراكاً ثورياً بما يلي:1- الصبر: قال الرجل، الذي قارب على بلوغ السبعين من عمره، إنه بدأ التظاهر والاحتجاج ضد النظام الشيوعي السابق في عام 1968، وأنه كثف من نضاله وكفاحه ضد السلطة في النصف الثاني من السبعينيات، وهو النضال الذي دفع بسببه ست سنوات من عمره قضاها في السجون.وأضاف ميشنك أن ذروة الاحتجاجات التي شهدتها بلاده كانت في الثمانينيات من القرن الماضي، وهي الاحتجاجات التي نجحت في إسقاط النظام، لتبدأ بلاده في مرحلة تحول ديمقراطي، استمرت أكثر من عقدين.يرى ميشنك أن بولندا لم تحقق تحولاً ديمقراطياً كاملاً حتى اللحظة الراهنة، وأن ديمقراطيتها تتعرض لضغوط، وأن أمام شعبه الكثير من الجهد والعمل لكي يصبح في مصاف الدول الاسكندنافية مثلاً، والتي بدأت تحولها الديمقراطي منذ أكثر من مئة عام.يوصي ميشنك بالصبر إذن، وعدم استعجال قطف الثمار.2- العفو لا فقدان الذاكرة: يعتبر ميشنك أن التسامح والسلم الأهلي والتوافق المجتمعي كلها عوامل ضرورية لتحقيق انتقال ديمقراطي ناجح، لكنه مع ذلك يؤكد ضرورة عدم النسيان، خصوصاً في ما يتعلق بالجرائم وانتهاكات القانون. يرى ميشنك أن الوصول إلى الحقيقة، وتسجيلها، وعدم نسيانها ضرورة، ولا يمانع أبداً في التسامح والاحتواء، لكن بعد كشف كل الحقائق.3- بناء المؤسسات الديمقراطية: يرى هذا المناضل البولندي أن الديمقراطية لا يمكن أن تتجذر في مجتمع ما من دون بناء مؤسسات تساعد على زرعها وتكريسها وصيانتها وإدامتها.ويولي ميشنك أهمية كبيرة لمؤسسات المجتمع المدني، التي يؤكد أنها ضرورية لإكمال البناء الديمقراطي في أي مجتمع. يعتقد الرجل أن ازدهار مؤسسات المجتمع المدني ضرورة أساسية لتحقيق الديمقراطية واستدامتها.4- نبذ العنف: يعتقد ميشنك أن العنف يفشل أي عمل ثوري، ويلطخ أي تحول ديمقراطي. ويتذكر الرجل أن السلطة سجنته، ووصفته بأنه "مجرم" و"عضو عصابة"، لكن هذا الأمر لم يفت في عضده. ويشير أيضاً إلى أن بعض أعمال العنف التي كان يقوم بها بعض الثوار والمنادين بالتحول الديمقراطي كانت وبالاً على الثورة، واكتشف الثوار سريعاً أنها تؤدي إلى نتائج سلبية تعوق العمل الثوري، وتحد من فاعليته، وتعطي السلطات المبرر اللازم لتصعيد القمع والاستهداف.5- حقوق الإنسان: يرى ميشنك أن الالتزام بحقوق الإنسان، ومحاولة تطبيق المعايير الدولية المرعية في هذا الصدد ضمانة أساسية من ضمانات التحول الديمقراطي الناجح. يعتقد الرجل أن أي عملية تحول ديمقراطي لا تركز على تطوير مفاهيم حقوقية وتكريس ممارسة حقوقية لا يمكن أن تحقق نجاحاً.6- توقع المخاطر: ينصح ميشنك بضرورة العمل على توقع المخاطر وعدم تجاهلها. يقول الرجل إنه في مراحل عديدة شعر بالخشية على بلاده من أن تتحول إلى بلقان جديدة، وأن يضربها التعصب والعنف والاقتتال الأهلي، أو تصبح عرضة لاستهداف أجنبي، يسلبها إرادتها الوطنية. لقد كان خائفاً من سيناريو البلقان، ولذلك، فقد عمل هو وزملاؤه على تفادي الكثير من الأوضاع التي كان يمكن أن تعزز فرص تحقق هذا السيناريو.7- الارتجال: يقول ميشنك إنه لا توجد ثورة تشبه أخرى، ولا توجد نصائح محددة يمكن باتباعها تحقيق النتائج المرجوة دائماً. ويرى الرجل أن الارتجال كان سيد الموقف في أحيان كثيرة، وبسبب الروح الثورية، وهذا الارتجال، فإن كل بلد يصنع ثورته التي تشبهه، ويحقق النجاحات التي يستحقها.إن نصائح جاكوفسكي وميشنك يمكن أن تجيب عن أسئلة كثيرة باتت تتردد في المجال العام في أكثر من بلد من بلدان "التغيير العربي"؛ وهي أسئلة يطرحها جمهور كان يعتقد أن العدالة والحرية والرفاه والديمقراطية ستتحقق بمجرد إطاحة النظم السابقة، بينما يؤكد الثوار المجربون أن إطاحة الاستبداد لا تعني سوى الخطوة الأولى في طريق وعر طويل ومليء بالأفخاخ، وأن اجتياز هذا الطريق عمل شاق لا يقدر عليه سوى المناضلين.* كاتب مصري
مقالات - زوايا ورؤى
نصائح ثورية
17-11-2013