"الدين والمستقبل"، كان عنواناً لندوة أقامتها مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" مع "مركز الدراسات الاستراتيجية" بالجامعة الأردنية، عمان 21-22/ 12/ 2013 دُعي إليها جمع فكري متميز، استشرافاً لمستقبل الدين في الحياة العامة والفكرية في ضوء تنامي الظاهرة الدينية ممثلة في انتشار التدين والصعود السياسي للجماعات الدينية وصعود التطرف والعنف المنتسب إلى الدين ومحاولة لبلورة سياق مفاهيمي لوضع الأديان في العالم بعد التطور العلمي وركون الإنسان إليه بديلاً عن قوى الغيب، وإجابة لتساؤلات:
هل ثمة مكان لعالم الغيب في عالمنا الحديث؟ وهل ساهم التطور العلمي في أزمة وجودية لدى الإنسان الحديث فأصبح أكثر إقبالاً على الدين؟ ولماذا هذا القلق الإنساني تجاه مصيره النهائي في هذا العالم؟"مؤمنون بلا حدود" مؤسسة دراسات وأبحاث نشطة ومعروفة في عالم المغاربة بخلاف عالم المشارقة، لذا يحسن أن أعرف القارئ بها، هي مؤسسة تعمل على تحقيق رؤية إنسانية للدين، منفتحة على آفاق العلم والمعرفة والمكتسبات الحضارية، وتسعى إلى خلق تيار فكري يؤمن بأهلية الإنسان على إدارة حياته ومجتمعاته، متخطياً الوصايات الأيديولوجية والعقائدية.كما تؤمن بأن خيرية الإنسان أوسع من أن تختزل في دين أو مذهب أو طائفة أو عرق، وأن كرامته تكمن في احترام حريته في التفكير والتعبير والاعتقاد مصداقاً لقوله تعالى "ولقد كرمنا بني آدم"، كما تؤمن بإعلاء قيم التنوع الثقافي والحضاري وعدم التمييز الديني أو العرقي أو اللوني، وأن احترام الآخر وثقافته والدفاع عنها هما حماية لذاتنا وهويتنا الإنسانية.إيمان المؤسسة بقيم الخير والجمال والمحبة، بلا حدود، وهو إيمان يتعالى على التحيزات والفوارق العقائدية والعرقية والثقافية والدينية والمذهبية والطائفية، وتعمل المؤسسة على ترسيخ هذه الأهداف عبر: تعزيز الدراسات والبحوث النقدية والتحليلية للموروث الديني، ودعم الدراسات والبحوث الاجتماعية والدينية القائمة على أسس علمية وعقلانية وإنسانية، وبناء الكفاءات العلمية والكوادر البحثية، وإيصال صوت التيار التجديدي لمختلف الشرائح الاجتماعية، وتنسيق التواصل ودعمه بين الباحثين والمفكرين.افتتح الندوة الأستاذ محمد العاني، المدير العام للمؤسسة، بكلمة ترحيبية تحدث فيها عن استثمار الطائفية واستغلال العنف الديني في الصراعات السياسية محذراً من نذر حرب دينية، وموضحاً أن الجماعات العقائدية كافة لا رؤية مستقبلية لها، داعياً الحضور إلى السعي إلى بلورة الإشكالات وطرح الأسئلة الحقيقية باعتبارها التحدي الحقيقي، وأعقبه د. موسى شتيوي، مدير "مركز الدراسات الاستراتيجية" الذي رحب بالحضور وسلط الأضواء موضحاً أن الصراع المقبل، هو صراع على شكل الدولة وهويتها في تجاوز مسألة العلاقة مع الآخر، مركزاً على أن المسألة الدينية عندنا شديدة الإلحاح، وأن الصراعات السياسية أصبحت ذات طابع ديني. دارت المحاور حول: الحالة الدينية عربياً وعالمياً، والدين والعولمة، والدين والتحولات الاجتماعية، ومستقبل الدين وكل من الاقتصاد والسياسة والعنف والغرب. وعلى مدى يومين حافلين بأوراق عمل متميزة ومداخلات ثرية، عاش المجتمعون أجواء فكرية حميمة، ولا يتسع المجال لعرض أوراق العمل كلها لكني أختار 3 أوراق، منها:"الدين والمستقبل"، ورقة المستشار عبدالجواد ياسين، وهي ورقة تحليلية معمقة لوضعية الدين في السياقين الأوروبي والإسلامي، استهلت بتساؤل عن مستقبل الدين وهل لا يزال يحمل معنى القلق على مصير الدين من التراجع- كما كان يحمله في القرن 19 الأوروبي- أم على العكس يحمل معنى القلق من تصاعد الدين وتوغله على حساب الحريات ومكاسب العقل والدولة المدنية- كما يوحي المشهد العربي؟يتوصل الباحث، طبقاً لهابرماس، إلى أن الدين لم يخرج سالماً من معركته مع العقل العلمي فحسب، بل يعاود الظهور في نسق هجومي صريح يستهدف المجال العام مما يتطلب الوصول إلى أرضية مشتركة للتعايش بين الدين والعلمانية، كحقيقتين لا يقصي أحدهما الآخر، بل يتعاونان انطلاقاً من الإقرار بفكرة التعددية وتكريس مفهوم التسامح وتقديم تنازلات من الطرفين، وصولاً إلى المجتمع ما بعد العلماني، هذا في السياق الغربي، أما في السياق الإسلامي، فإن اجتماعيات الغزو القبلية تحولت إلى أحكام دينية دون التمييز بين ما هو مطلق أخلاقي ثابت وما هو تفصيلي متغير، فتوقف الفقه أمام لحظة محلية عابرة (لحظة الحروب في مرحلة التأسيس)، ليستخلص منها حكماً نصياً يربط بين الكفر وحل الدم، ليتجسد ذلك التوجه العنيف في مسار التدين، خارجياً في (الفتوح) وداخلياً في (الاقتتال بين الفرق)، وهو التوجه الذي يغذي مفاهيم الأصولية المتطرفة ويوفر غطاءً شرعياً لعنفها المعاصر.ويتساءل الباحث: ما الجوهر الثابت في الدين المتعالي على الزمان والمكان؟ ويجيب بأنه هو "الدين في ذاته"، أي جوهره المطلق قبل انغماسه في المجتمع، وينتهي إلى أن مستقبل الدين يكمن في التخلص من زحمة اللاهوت الناتج عن الممارسات البشرية، إلى معناه المطلق (الله- الأخلاق).الورقة الثانية للدكتور حسني عايش، وتقوم على فكرة طريفة ومبتكرة، تصور زائراً من المريخ إلى الأرض، ليجد العالم- شعوبه ودوله- مشغولة بالتقدم والازدهار ما عدا العرب وبعض المسلمين، المشغولين بصراعات الماضي، فيعقد مؤتمراً صحافياً ويوجه أسئلته إلى الإسلاميين: لماذا تصرون على جعل الماضي هو المستقبل؟ لماذا تصورونه زاهراً وتتسترون على الجزء المظلم فيه؟ مع أنه قد وصل إلينا بالصوت والصورة، نحن في المريخ؟! لينتهي المؤتمر بهتافات الإسلاميين المطالبين بطرده من الكوكب.أما ورقتي فتناولت "مستقبل العنف الديني" موضحاً أن هذا المستقبل يعتمد على قدرتنا على وضع استراتيجية ترفع مناعة مجتمعاتنا الفكرية والثقافية تجاه عوامل التطرف والعنف، عبر: مراجعة أساليب التنشئة المبكرة، ومراجعة المنظومة التعليمية، وأنسنة الخطاب الديني، وإبعاد منابر المساجد عن الخلافات السياسية والمذهبية، وتحييد "الدين" أمام الصراعات السياسية، وحياد "الدولة" أمام المذاهب والأديان، وضبط فتاوى التحريض والتكفير، وتبني المنهج النقدي في تدريس التاريخ، وتدريس تاريخ الأديان وفق المناهج الحديثة، وتصحيح النظرة المجتمعية للمرأة، وتفعيل مفهوم المواطنة، وضرورة مراجعة الإسلاميين لخطابهم السياسي والديني، وتفكيك ثقافة العنف في تراثنا.هناك أوراق مهمة أخرى لا يتسع المجال إلا لذكر عناوينها، يمكن الرجوع إليها عبر موقع المؤسسة الإلكتروني، منها: "مناهج التربية الإسلامية وأثرها في بناء الشخصية الإسلامية المستقبلية"، للباحث الكويتي د. حمود الخطاب، وسورين كيركغارد، و"الإيمان الوجودي وديانة الضمير الفردي" للدكتور عبدالجبار الرفاعي من العراق، و"الدين والتحولات المعرفية والحضارية" للأستاذ زكي الميلاد من السعودية، و"اتجاهات المسألة الدينية في الفكر الفلسفي" للدكتور عبدالله السيد ولد أباه من موريتانيا، و"الدين والمستقبل: الدين والتاريخ" للأستاذ هاني نسيرة، مصر، و"الدخول في الدين، الخروج من الدين" للدكتور فهمي جدعان، الأردن، و"الدين والمستقبل والغد" لسماحة السيد هاني فحص، و"العنف ومستقبل الدين في العالم المعاصر" للأستاذ سعد سلوم، العراق و"تطور أشكال التدين في البلاد العربية" للدكتور عبدالمجيد الشرفي، تونس، و"دين المستقبل: ملامح وتحديات" للأستاذ يونس قنديل، الأردن، و"العلم والدين" د. إبراهيم عثمان، الأردن، و"مستقبل الدين والعنف" الأب الدكتور فرنسوا عقل، لبنان، و"الإسلام والدولة المدنية" د. رحيل غرايبة، الأردن.* كاتب قطري
مقالات
«الدين والمستقبل»... رؤى استشرافية
30-12-2013