يُنْسَبُ إلى وزير خارجية الاتحاد السوفياتي الأسبق أندريه غروميكو أنه قال: "إن مفاوضات سياسية لاثني عشر عاماً أفضل من حربٍ ولو ليومٍ واحد"، ويُنْسب إلى المفكر الاستراتيجي العسكري الشهير كارل فون كلاوزفيتز أنه قال: "إن الحرب امتداد للسياسة، ولكن بوسائل أخرى"، وهذا يعني أن الذين يتحدثون عن معاهدة السلام الأردنية- الإسرائيلية "وادي عربة" بأنها "مؤامرة" وأن المفاوضات الجارية الآن بين الفلسطينيين والإسرائيليين برعاية وزير الخارجية الأميركي جون كيري تفريط واستسلام لا يعرفون من قوانين الصراع شيئاً، وأنهم "يثرثرون" بالمقاومة والكفاح المسلح، مع أنه معروف عنهم أنهم لم يقاوموا إلاَّ بالمزايدات وبالانشغال بأمورهم الخاصة وبالطرق والوسائل المعروفة.

Ad

إن أرقى أشكال المقاومة، عندما تكون موازين القوى "طابشة" لمصلحة الخصم والعدو، هو إيقاف هذا الخصم عند اللحظة الراهنة وعدم تمكينه من استثمار تفوقه لإحراز انتصارات جديدة، وتلك هي القيمة الاستراتيجية لصلح الحديبية الشهير الذي اضطر الرسول محمد، عليه صلوات الله، لتوقيعه مع مشركي قريش عندما كانت معادلة موازين القوى لمصلحتهم، وعندما كان المسلمون بحاجة إلى التقاط الأنفاس بانتظار تعديل هذه الموازين لمصلحتهم، وهذا ما حدث لاحقاً فكان فتح مكة الانتصار التاريخي الذي بُنِيت عليه كل التطورات اللاحقة.

في النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي، قبل قيام دولة إسرائيل، بادر الملك عبدالله الأول، أمطر الله تربته بشآبيب رحمته، إلى الإعلان عن حلٍّ يعطي "اليهود" اثنين وعشرين في المئة من فلسطين، ليقيموا فيه حكماً ذاتياً لهم، لكن المزايدين، وغالبيتهم عربٌ من الدول المجاورة، رفضوا استغلال معادلة اللحظة التاريخية في تلك الفترة المبكرة، فأضاعوا فرصة ها هي نتائج ضياعها تتجسد الآن حيث، بعد كفاح بطولي طويل، يحاول المقاومون الفلسطينيون، الذين أطلقوا شرارة الثورة المسلحة المعاصرة، انتزاع اثنين وعشرين في المئة، من وطنهم الذي استكمل الإسرائيليون احتلاله عام 1967، بشق الأنفس.

وهكذا، فإننا لو عدنا إلى عام 1994 فإننا نجد أن فرصة تاريخية فعلية قد لاحت لإنهاء تطلعات أصحاب الرؤوس الحامية من الإسرائيليين إلى الضفة الشرقية من نهر الأردن ولإلغاء شعارهم القائل: "للأردن ضفتان... هذه لنا وتلك أيضاً"، وحقيقة فإن قمة المقاومة هي مواجهة الأردن كل هذه التطلعات بإبرام اتفاقية وادي عربة التي هي معاهدة دولية تعترف بها وتقرها كل دول العالم، إذ تفرغ بعد ذلك لإسناد الأشقاء الفلسطينيين الذين كان توقيع هذه الاتفاقية لمصلحتهم بمقدار ما كان مصلحة عليا أردنية وقومية.

والآن، وبينما الوضع العربي والدولي أيضاً هو هذا الوضع، فإنَّ قمة وذروة المقاومة هي انتزاع الأرض التي احتُلّت عام 1967، ومن ضمنها القدس الشرقية (العربية) وإقامة دولة فلسطينية مستقلة عليها، وهنا، حتى يدرك "المزايدون" ومعهم طيبو القلوب كم أن هذه المفاوضات التي تجري الآن، برعاية الولايات المتحدة ممثلة بوزير خارجيتها جون كيري، أقسى وأشدَّ من الكفاح المسلح الذي خاضه هؤلاء الذين أطلقوا ثورة المعجزات عام 1965 وأضاءوا برصاصتهم الأولى ظلاماً دامساً كان غيرهم يستسلمون له، وكان هناك مزايدون كثر مثلهم مثل الذين يزايدون الآن على (أبومازن) ورفاقه، وعلى مسانديهم، وفي مقدمتهم هذا البلد المملكة الأردنية الهاشمية... فربما كان هؤلاء المزايدون، ومعهم بعض طيبي القلوب، يجهلون حقائق الأمور ولا يدركون "أنَّ من يده في النار ليس مثل الذي يده في الماء" وأن صاحب القضية الوطنية ليس كأصحاب القضايا الخاصة والمصالح الشخصية.

 ربما أن هؤلاء لا يعرفون كمْ أنه انتصار تاريخي أنْ تُنْتزع الأرض التي احتلت عام 1967 من بين أشداق غلاة الإسرائيليين، الذين كانوا قبل اتفاقية وادي عربة يتطلعون أيضاً نحو الشرق عبر نهر الأردن، وكمْ كانت ذروة المقاومة وانتصاراً تاريخياً أن تقوم دولة مستقلة فوق هذه الأرض للشعب الفلسطيني الذي، قبل ثورة عام 1965، كان يخيم عليه اليأس والإحباط، وكان في حقيقة الأمر بلا هوية وطنية... وكان يخشى الإعلان عن "فلسطينيته" على معابر حدود الدول العربية وغير العربية.