لا يبدو أن الولايات المتحدة حسمت أمرها حيال النظام الجديد في مصر حتى هذه اللحظة، رغم الكثير من الإشارات التي تؤكد أن هذا النظام يحظى بدعم شعبي واضح، ظهر من خلال انتخابات يصعب جداً التشكيك فيها، وأنه أتى ليستقر ويستديم، والأهم من ذلك أنه قادر على فرض الأمن داخلياً، وعلى المساعدة في صيانته في الإطار الإقليمي.

Ad

يعتقد كثيرون من المهتمين بتحليل السياسات الأميركية حيال منطقة الشرق الأوسط ومناطق أخرى من العالم أن ثمة أجنحة عديدة في واشنطن تمتلك وجهات نظر متباينة ومصالح مختلفة وقدرات تأثير متفاوتة في القرار الرسمي؛ وأنه كثيراً ما يظهر التضارب والارتباك في السياسات الأميركية كنتيجة لاختلاف الرؤى بين تلك الأجنحة وتصادمها أحياناً.

لكن آخرين يرون أن واشنطن حسمت أمرها حيال النظام الجديد في مصر، واختارت التعاون معه، لكنها تعتزم إبقاءه دائماً تحت ضغط من جهة، كما تريد أن تحتفظ بأوراق مع تنظيم "الإخوان"، بما يمكنها من العودة لاستخدامها مجدداً إذا دعت الحاجة، من جهة أخرى، وهو الأمر الذي يبدو أكثر منطقية.

على أي حال لم ترسل واشنطن مسؤولاً رفيعاً لحضور حفل تنصيب السيسي؛ واكتفت بإرسال مستشار لوزير الخارجية، كما كانت التهنئة التي أرسلها الرئيس أوباما تحمل قدراً كبيراً من التحفظات المبطنة، وما يمكن اعتباره "شروطاً ضمنية"، لاستمرار التعاون بين الجانبين.

تضاربت تقارير صحافية في القاهرة على مدى الأيام الفائتة في شأن زيارة مزمعة لوزير الخارجية الأميركي جون كيري لمصر اليوم، إلى حد أن السفارة الأميركية نفت أن يكون هناك إعلان رسمي لمثل تلك الزيارة.

قد يحل كيري ضيفاً على القاهرة اليوم، ليكون أرفع مسؤول أميركي يزور مصر في ظل رئاسة السيسي، لكن سياق العلاقات بين البلدين يبدو متوتراً ومستقبلها غائم.

عشية الزيارة غير المؤكدة، وصلت الأنباء إلى القاهرة عن مناقشة مجلس الشيوخ إجراء خفض جديد في المعونة الأميركية لمصر.

تتحدث التقارير عن اقتراح نواب المجلس خفضاً بقيمة 300 مليون دولار من المعونة العسكرية البالغة 1.3 مليار دولار سنوياً إلى جانب خفض آخر بقيمة 100 مليون دولار من المعونة الاقتصادية، التي تعرضت لتخفيضات كبيرة سابقة.

في حال تطبيق هذا الاقتراح، ستكون المعونة السنوية منيت بخفض نسبته 26%، وهي نسبة سترسل إشارة سلبية للسلطات الجديدة في مصر.

الأنباء عن اقتراح مجلس الشيوخ جاءت مترافقة مع تصريح للنائب الجمهوري ليندسي غراهام، يقول فيه إن الانتخابات الرئاسية الأخيرة "كانت محل شك".

سيزعج هذا التقييم أكثر من 25 مليون مصري منحوا أصواتهم للسيسي، وسيذكر القاهرة بأجواء العناد التي لمستها من "الصديق" الأميركي على مدى العام الماضي، منذ تمت إطاحة حكم "الإخوان" عبر انتفاضة شعبية ضخمة، لم يجد الجيش سبيلاً لتجاهل مطالبها.

لا يقتصر الأمر على محاولات البرلمان الأميركي خفض المعونات المقدمة لمصر، أو التهنئة المتحفظة من أوباما، أو تجميد التعاون العسكري وبعض صفقات السلاح وقطع الغيار، أو الانتقادات المتتالية لما يسمى بـ"حالة حقوق الإنسان" في مصر، لكنه يمتد ليشمل تغطية إعلامية سلبية واستهدافية.

كانت وسائل الإعلام الأميركية الرئيسة، المتابعة لما يجري في مصر خصوصاً التطورات السياسية التي شهدتها منذ 30 يونيو الماضي، تشن الهجمة تلو الهجمة على الأوضاع الجديدة، وتطعن، وتشكك، وتحبط، وتحرف الرأي العام العالمي عن حقيقة ما جرى في 3 و26 يوليو الماضي، وتأكد ورسخ في الاستفتاء على الدستور، ثم انتخابات الرئاسة.

لم يكن هذا بالطبع يتم بمعزل عن سلوك واشنطن السياسي تجاه القاهرة؛ إذ يمكن القول إن الأدوات الإعلامية انسجمت بوضوح مع التوجه المعلن للإدارة الأميركية حيال التطورات في مصر؛ وهو توجه راوح ما بين العدائي والسلبي في أغلب الأحيان.

فمن البيانات والتصريحات الرسمية السلبية، إلى التقييمات السياسية المزعجة، وصولاً إلى القرارات الحادة؛ مثل تعليق قدر من المساعدات، أو إيقاف مشروعات تدريب وتعاون مشترك، ظلت واشنطن تحاول إرباك التطور السياسي الجديد في مصر.

لقد فاز المشير السيسي في الانتخابات الرئاسية التي جرت في نهاية شهر مايو الماضي؛ وهي الانتخابات التي شهدت جهات المتابعة الدولية والمحلية المستقلة لها بـ"النزاهة والسلامة الإجرائية والقانونية".

وتلقى السيسي التهنئة من دول وزعماء ومنظمات عديدة في العالم، في ظل ارتياح وطني واضح، ومزاج شعبي متفائل ومعتدل، واحتفالات متتالية تعم البلاد، وتوقعات مفعمة بالآمال بخصوص مستقبل مستقر وآمن ومتجاوب مع التطلعات الشعبية، بعد فترة انتقالية شائكة وصعبة ومكلفة تركت البلاد متعبة ومرتبكة.

في هذا الوقت تحديداً، اختار الرئيس أوباما أن يرسل رسالة ملتبسة للرئيس الجديد في مصر، ورغم أن الحد الأدنى من المنطق ألزمه بالاعتراف بما تم إنجازه على صعيد تنفيذ "خريطة الطريق" بتنظيم انتخابات رئاسية سليمة، فإنه ظل مصراً على أن يضع قيوداً على الحكم الجديد، ويسجل تحفظات عن حالة الحريات.

سيحتاج أوباما إلى التنسيق المستمر مع مصر في الشأن العراقي، وأمن الخليج، والملف الإيراني، والأوضاع في سورية، والصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، والأوضاع داخل غزة ورام الله، وأمن الحدود، وغيرها من الأمور الحيوية والخطيرة.

إن واشنطن تخسر خسارة استراتيجية بسبب سلوك العناد حيال القاهرة، وسوف تعاني كثيراً لإصلاح ما أفسدته هذه السياسة غير الذكية وغير النزيهة في آن.

على واشنطن أن تدرك مجموعة من الحقائق التي ظهرت واضحة على الأرض؛ ومنها مثلاً أن تقييمها للتطورات في مصر لم يعد على نفس مستوى الأهمية السابق داخل البلاد وخارجها، وأن المصريين مثلاً باتوا أكثر اهتماماً بتطوير العلاقات مع روسيا، وانتظار زيارة يقوم بها رئيسهم إلى موسكو أو يحل فيها بوتين ضيفاً على القاهرة بأكثر مما يتطلعون إلى زيارة من أوباما.

لقد بات القطاع الأغلب من المصريين يعتقد أن واشنطن لا تدعم القيم الديمقراطية كما تدعي، لأنها من وجهة نظر هذا القطاع دعمت فاشية "الإخوان" الدينية، وأنها لا تحفل بحقوق الأقليات، خصوصاً المسيحيين، لأنها لم تنتفض ضد حرق كنائسهم واستهدافهم على أيدي "الإرهابيين"، وأنها تستخدم المعونة للضغط على مصر وتطويع سياساتها... وأخيراً وليس آخراً... أنها لا تهتم سوى بأمن إسرائيل.

ستجد واشنطن صعوبة بالغة في إقناع المصريين بأنها تريد خفض المعونة حرصاً على قيم الديمقراطية؛ لأن هؤلاء يعلمون جيداً أنها تتعاون مع أنظمة استبدادية في المنطقة والعالم من أجل صيانة مصالحها، دون أن تضغط على تلك الأنظمة لتعديل مسارها.

كما ستجد صعوبة بالغة في إعادة التمركز في السياق المصري مجدداً، أو استعادة الدفء إلى العلاقات الثنائية بين البلدين بسبب تدهور صورتها وتراجع الثقة بها.

لقد نشأ في مصر نظام قوي، يحظى بدعم شعبي واضح؛ وهو قادر على الاستدامة والتأثير في محيطه، وستكون واشنطن خاسرة إن هي لم تقم علاقات جيدة ومتوازنة معه.

* كاتب مصري