أحسنت السعودية بإصدارها قانون "جرائم الإرهاب وتمويله" ليشمل كل نشاط إرهابي داخلياً وخارجياً، تمويلاً أو دعماً أو ترويجاً أو تحريضاً، قولاً أو كتابة، وبذلك تكون السعودية الدولة الخليجية الرابعة بعد البحرين، والكويت، والإمارات، في إصدارها هذا القانون، ولعل القانون السعودي هو الأدق في تعريفه للعمل الإرهابي وشموله كل عملياته ووسائله الداعمة معنوياً ومادياً، وكذلك معاقبة كل من ينضم إلى جماعة مصنفة كمنظمة إرهابية، وكان هذا القانون – النظام- مترقباً بعد أن ابتلي المجتمع السعودي بذهاب عدد من أبنائه للقتال في سورية، يقدر عددهم بـ1400 مقاتل وفي العراق وغيرهما؛ بحجة الجهاد دون إذن الدولة والوالدين.

Ad

 تعالت أصوات الأهالي للجهات المسؤولة عبر المنابر الإعلامية بمساءلة الرموز التحريضية، وكان أعلاها صوت الإعلامي السعودي البارز داود الشريان عبر "إم بي سي" الذي انتقد دعاة الجهاد بأنهم يحرضون أبناء الآخرين بينما هم وأبناؤهم في النعيم يرتعون، وقال متحدياً: اذهبوا أنتم أولاً وسنلحق بكم!

 صدور هذا القانون كان ضرورياً، فلا يكفي أن تعاقب المنفذ الصغير وتترك المحرض الكبير، جاء هذا القانون ليحسم الجدل الفقهي: من يملك حق إعلان الجهاد، هل هو الشيخ الخطيب من منبر الجامع أم الحاكم ولي الأمر؟ جاء القانون ليقول بكل وضوح: إعلان الجهاد حق حصري بولي الأمر شرعاً ودستوراً، وليس من حق الخطباء والمشايخ تحريض الشباب على الجهاد– لا دفعاً ولا طلباً– بدون إذن الدولة، كما أنه ليس من حق الأفراد الذهاب إلى الجهاد إلى البلاد الأخرى؛ ليكونوا وقوداً لجماعات "القاعدة" التي تعيث في الأرض فساداً وقتلاً وترويعاً.

 حسم القانون السعودي قضية الجهاد، فالجهاد بالمعنى القتالي هو واجب الدولة عبر جيشها النظامي، لا واجب الأفراد الذين يجب أن يقتصر جهادهم على ميادين العلم والعمل والإنتاج والتنمية لخدمة الدين والوطن، الدولة -وحدها– تملك حق احتكار "العنف المشروع"، ومعنى ذلك: سلب الشرعية من كل التنظيمات العسكرية التابعة للجماعات الدينية، فالفهم الضال للجهاد هو الذي أودى بحياة آلاف الشباب المسلم، وكان وراء فجيعة آلاف الأسر، أمهات متن كمداً، وآباء أضنتهم اللوعة والأحزان.

 لا شك أن القانون سيحدّ من حرية الخطباء في التحريض، والذين سيعملون ألف حساب للعقوبة، وسيحجم ظاهرة ذهاب الشباب للجهاد، وقد يعيد بعض الطمأنينة لتلك الأسر المنكوبة، وكثيرون يتصورون أن هذا القانون يحقق الحل المنشود في حماية الشباب من الذهاب إلى مواطن الهلاك عبر تجريم التحريض من الرموز الدينية.

 ومع تقديري لوجهة النظر واحتفائي بالقانون أرى أن القانون وحده ليس حلاً كافياً،

فأولاً: مصادر التحريض لا تقتصر على الرموز الدينية في الداخل، فهناك المحرضون من الخارج، وهناك القنوات الفضائية وآلاف المواقع الإلكترونية المحرضة، ووسائل التواصل الاجتماعي، إضافة إلى التنظيمات العابرة للحدود والأطراف الدولية والإقليمية المستفيدة.

وثانياً: تحميل المحرض وحده وزر ذهاب الشباب للجهاد غير دقيق معرفياً وشرعياً ومنطقياً:

 معرفياً: لأن هذه الظاهرة تتشابك فيها عوامل عدة، ولا يمكن تفسيرها بعامل التحريض وحده، ولأن هذا التصور أيضاً يتجاهل قطاعاً من الشباب عنده القابلية الفكرية والاستعداد النفسي للجهاد، ظناً أنه يؤدي واجباً شرعياً، إضافة إلى قطاع آخر يعاني توتراً نفسياً أسرياً أو توتراً سياسياً مع دولته، فيندفع إلى مواطن القتال لتفريغ توتره في حين يعتقده جهاداً واستشهاداً، فراراً من حياة بائسة إلى حيث النعيم المقيم، كل هؤلاء يذهبون للجهاد طوعاً لا تحريضاً.

 وأما شرعاً: فلأن أحكم الحاكمين لا يقبل منا يوم الفصل تحميل الشيطان وحده، وزر أعمالنا "وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ"، وعندما حاول بعض المسلمين تعليل قصورهم باتهام العدو، رد القرآن الكريم، "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ"، فالمسؤولية مشتركة.

وأما منطقياً: فلأن في منهج لوم الآخر إعفاءً لجهات عديدة مسؤولة عن تحصين الشباب تجاه أفكار الغلو والتطرف من المسؤولية، وتبريراً لإخفاقها في القيام بواجباتها التربوية والتعليمية والتوجيهية، بدءاً بالأسرة مروراً بالتعليم وانتهاءً بالمؤسسات الدينية والإعلامية والثقافية– سعوديون للبيع: جميل الذبياني.

  ومن هنا فإن القانون قد يشكل خطوة مهمة في الطريق، لكن الظاهرة ستستمر ومعاناة الأسر والمجتمعات لن تنتهي إلا إذا تضافرت الجهود لوضع استرتيجية تحصينية للشباب، طويلة وشاملة، من أهم مرتكزاتها:

1- مراجعة أساليب التنشئة المبكرة التي عبر عنها المفكر السعودي إبراهيم البليهي بـ"البرمجة"؛ لأن أكثر من يستهويهم خطاب التحريض هم من لم يحصنوا تربوياً، إذ دلت الدراسات التربوية أن أكثر المتطرفين وراءهم بيوت مفككة إما بسبب التعدد الجائر أو الطلاق المتعسف أو التربية العنيفة، ولعل "التحصين التربوي" هو أهم التحصينات الوقائية للناشئة من الاستجابة للتحريض.

2- مراجعة مناهج التعليم لتخليصها من آفتين مزمنتين: الأسلوب التلقيني والرؤية الأحادية المنغلقة، وهما أبرز عاملين في إضعاف قدرة الطالب على ممارسة (المنهج النقدي) العاصم من غزو التطرف والتحريض.

3- تطوير الخطاب الديني بأنسنته وانفتاحه على الثقافات ومعطيات العصر وقيمه الإنسانية، وعلى أفق المقاصد الشرعية.

4- قيام المجامع الفقهية المعتبرة بتحريم كل العمليات الانتحارية بدون استثناء، كما هو منهج علماء السلف قاطبة، وأبرزهم: ابن باز، والعثيمين، وآل الشيخ، وكما يقول جمال خاشقجي، الكاتب والإعلامي السعودي، إن هذه الظاهرة لم تكن معروفة من قبل، وذلك فهي ظاهرة خطيرة تنم عن أزمة أخلاقية وفكرية عظيمة لدى المسلمين، لأنها جريمة مزدوجة: قتل النفس المحرمة وقتل الآخرين، لكن توظيف الدين في سوق السياسة هو الذي دفع البعض إلى إباحتها بحجة أنها "أسمى أنواع الجهاد".

5- تصحيح واسع يشارك فيه علماء الأمة لمفهوم الجهاد الذي شوهه وأساء إليه هؤلاء المضللون، لندرس طلابنا أن جهادهم الحقيقي هو في تملك سلاح العلم والتقنية والمعرفة والجهاد في ميادين التنمية والعمل والإنتاج والاكتشاف والإبداع، أما الجهاد في ميادين القتال فهو من مهمة الجيوش النظامية دفاعاً عن الوطن.

6- تعميم "تجريم الخطاب التحريضي" خليجياً وعربياً وإسلامياً، عبر كل من مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، لأن الظاهرة الإرهابية عابرة للحدود والقارات، لا تستطيع دولة وحدها مواجهتها، فلا بد من التنسيق والتعاون الدولي المشترك.

ختاماً: يبقى أن نقول إن التحدي الأكبر أمام دولنا هو في قدرتها على تفعيل قانون تجريم الإرهاب والتحريض عليه.

* كاتب قطري