لأننا شعب يُقدس الموت ويخشى لحظات الفرح، بدليل أنه يردد بخوف، في أعقاب كل ضحك هستيري: {اللهم اجعله خيراً»، جرت العادة أن نُحيي ذكرى رحيل موتانا، ونتجاهل الاحتفال بأعياد ميلادهم، ومن هذا المنطلق ننتظر الحادي والعشرين من يونيو لننعي سعاد حسني (26 يناير 1943- 21 يونيو 2001) ونبكيها، ونُدبج المقالات في رثائها، بينما نتجاهل اليوم الذي شهد ميلاد تلك «الأسطورة» التي قلما جاد الزمان بمثل موهبتها وسحر ألقها.

Ad

غير أنني قررت مع اقتراب العام الواحد والسبعين لميلادها أن أكتب عنها، علني أوهم نفسي بأنها ما زالت تعيش بيننا، وأراها تتمايل أمامنا؛ فالأمر المؤكد، ومن دون مبالغة، أن سعاد حسني ما زالت تعيش فينا ولم تبارحنا، ومن يوم إلى آخر يزداد شوقنا إليها وافتقادنا لروحها؛ ففي اللحظة التي نتجرع، حتى الثمالة، كأس «السينما الهابطة» و»الفن الرذيل» يشدنا الحنين إلى أفلامها، وعندما نفاجأ بمن يُجهد نفسه في التمثل بها يتضخم شعور الفقدان في داخلنا، وننصرف عن «التقليد» لنبحث عن «الأصل» في فضائياتنا، وفي مكتباتنا الفيلمية؛ إذ ما زالت أفلام سعاد حسني تحتل مكانة في قلوبنا، وتمثل جزءاً عزيزاً من إرثنا وتراثنا وثقافتنا.

13 عاماً مرت على رحيل الفنانة الشاملة (كانت ترقص وتغني وتمثل وتتذوق الشعر وأيقونة جلسات المثقفين)، ورغم هذا لم يتوصل أحد، حتى هذه اللحظة، إلى إجابة للسؤال الحائر: «هل انتحرت أم نُحرت ؟»!

من يعرفها عن قرب يُقسم بأغلظ الإيمان أنها تملك شخصية مُحبة للحياة، ومُقبلة عليها بشكل جنوني، ما ينفي عنها الإقدام، بل التفكير أصلاً، في فعل الانتحار؛ خصوصاً أن مقتلها جاء في توقيت تعافت فيه، بدرجة كبيرة، من أزمتها الصحية، التي دفعتها إلى اتخاذ قرار السفر إلى لندن لعلاج عمودها الفقري، الذي كان يُسبب لها آلاماً رهيبة، وانتهزت وجودها في عاصمة الضباب لتعالج أسنانها أيضاً، ومن ثم تحسنت حالتها النفسية والمعنوية، وبدأت بالفعل حزم حقائبها تمهيداً للعودة إلى مصر!

في المقابل، يرى من يُطلقون على أنفسهم «العالمون ببواطن الأمور»، ممن ينأون بأنفسهم عن كل ما هو عاطفي، ويتشبثون بكل ما هو مادي، أن الإحباط بلغ بها مداه، وأن اليأس أصابها عقب تأخر شفائها، وتمكن البدانة منها، وتجاهل زملائها الفنانين لها، وهو ما اعترف به الفنان حسن يوسف عندما قال إنه أخطأ في حقها، وإنه لن يغفر لنفسه أنه قابلها يوماً، ولم يعرفها، وبعد أن عرفته بنفسها استأذنها كي يضع حقائبه في غرفته في الفندق، وعندما عاد إلى البهو اختفت تماماً، وبحث عنها لكنه لم يجدها!

أثيرت أقاويل أيضاً إن الصحافة المصرية اغتالتها، عبر إيهام القراء بأنها تتسول في شوارع لندن، وتأكل من صفائح قمامتها (حسن يوسف قال في شهادته إنه لم ير سعاد حسني، وإنما امرأة ترتدي سترة خفيفة في صقيع يناير، وحذاءً رخيصاً، وأن شعرها كان غير مصفف!). كذلك زعموا أنها أهدرت الأموال التي خصصت لعلاجها على نفقة الدولة على متعتها، ومن ثم أقدمت على الانتحار، بإلقاء نفسها من شرفة الشقة، التي كانت تُقيم فيها في الطابق السادس من برج {ستيورات تاور} في قلب لندن، مع صديقتها نادية يسري التي كانت تستضيفها، وحامت الشبهات حول تورطها في الحادث، وغيبها الموت أيضاً في أواخر العام الماضي، وبرحيلها ماتت الحقيقة!

بالطبع كانت الفرصة مواتية لترويج أنباء عن وقوف مسؤول سياسي مصري كبير وراء اغتيال سعاد حسني، بعدما بدأت في كتابة مذكراتها؛ خصوصاً أن برج {ستيورات تاور} شهد سلسلة من {الاغتيالات السياسية}، التي ارتكبت بالطريقة نفسها، لكن جهاز الشرطة البريطانية {سكوتلاند يارد} اتخذ قراراً بإغلاق ملف القضية ما أثار صدمة محبيها، ومريديها، ممن يستبعدون حتى يومنا هذا مزاعم انتحارها!

المثير أن المخرج محمد خان فاجأ جمهور وضيوف الدورة العاشرة لمهرجان دبي السينمائي الدولي بإهداء فيلمه الأحدث {فتاة المصنع} إلى روح سعاد حسني، التي عملت تحت إدارته في فيلم {موعد على العشاء}، وبرر هذا بأنها {الساكنة في وجدان البنت المصرية والعربية}، وأضاف بأنه نذر أن يُهدي إليها الفيلم بعدما استشعر أنها ذهبت طي النسيان، وأن ذاكرة الأجيال الجديدة لم تعد تتسع لها. لكن المفارقة أن {خان}، الذي وظف مقاطع صوتية من حواراتها للتعليق على مواقف الفيلم الدرامية، صور مشهداً أقدمت فيه بطلة الفيلم ياسمين على الانتحار يأساً من المشاكل التي لاحقتها، وأعاد مشهدها، وهي مُلقاة على أرض الشارع، إلى الأذهان ذكرى {الرسم الكروكي}، الذي صور سعاد حسني، وهي ملقاة على أرض جراج برج {ستيورات تاور}، وقد التوت قدماها، وفات عليه أنه يُسهم بهذا المشهد في الترويج للمزاعم التي تقول إن {السندريلا} انتحرت!