مصر وإثيوبيا... محاولة للفهم (٢)
يبدأ الخطأ عندما لا أرى سوى ما أقتنع به، ويتضاعف الأثر السلبي عندما أصر على ما أراه، ولا أحاول أن أجهد نفسي بأن أنظر من زاوية مختلفة؛ من زاوية الآخر، هذا ينطبق إلى حد كبير على أسلوبنا في التعامل مع دول حوض النيل.لقد اكتفينا بالتأكيد على ما هو غير قابل للنقاش أو التنازل، وهو عدم التنازل عن حق مصر في الحصول على نصيبها وما يكفيها من مياه نهر النيل، واكتفينا سنوات طويلة بتأكيد هذا المعنى والتقليل من أي رؤية مخالفة لبقية دول الحوض، ولم نحاول أن نذهب إلى زاويتهم لنرى من خلالها، ليس لتبني ما يرون، لكن لكي نصل إلى رؤية مكتملة، إلى صورة أكثر اكتمالاً تساعدنا على فهم المشكلة من زواياها المختلفة، لتمكننا من اتخاذ القرار الصحيح والخطوات الصائبة نحو حل تلك الأزمة بما يضمن لنا مصالحنا، وتدفق حقنا من المياه، ولكن في ذات الوقت دون خسارة أي من العناصر الأخرى؛ من علاقات واستقرار مع دول، ليس لنا جميعاً خيار سوى أن نوجد معاً إلى الأبد.
جزء من الخطأ في فعلنا في الماضي أننا وقفنا مكاننا نؤكد ما هو حق لنا في مياه النيل، نلوح بالاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تنص على حقوق مصر في هذه المياه، ولم نشغل أنفسنا كثيراً في أن نعرف ماذا يريد الآخرون، لماذا غضب الآخرون، هل مواقفهم هذه نابعة عن جهل منهم بهذه الاتفاقيات، أم رفض لها، أم تعبير عن غضب من سلوك غائب عنا، أو سياسة في التعامل غاب عنا فيها الإحساس بالطرف الآخر، واحتياجاته السياسية والاقتصادية والنفسية؟ المشكلة أننا تعاملنا أيضاً بأسلوب الضامن لما في يديه إلى الأبد، والقادر دائماً على التحرك الناجح في الوقت الذي يراه مناسباً.انشغلنا بأمور أخرى كثيرة، وفي غمرة انشغالنا لم نلحظ أن ما كنا نعتقده من الثوابت في بعض المناطق لم يعد من الثوابت، ولم ندرك أن هناك تطورات سياسية واقتصادية، ونفسية حدثت في مناطق اعتدنا أن نتعامل معها تعامل الواثق القادر دون أن يطور من أساليبه أو يجدد من وسائل تواصله ورؤيته لهذه المناطق التي اختلفت رؤيتها لما حولها وعلاقاتها ومصالحها وتحالفاتها وحتى لنفسها.الاتفاقيات الدولية مهمة، ولكنها لن تكون الحل لموضوع مياه النيل، والإصرار على الموقف والحق في الحياة ينبغي أن يكونا مستمرين، ولكن وحده، أي الإصرار، لن يكون كافياً لتحقيق ذلك.عندما التقيت رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل ميلس زيناوي توقفت أمام جزء آخر من الصورة لم يكن واضحاً لي، وكان مهماً أن نراه، كان من بين ما قال: • "إثيوبيا لا تطالب باقتسام مياه النيل بشكل متساوٍ. نحن لم نقل ذلك، ولكننا نطلب اقتسام النيل على نحو عادل.• نحن نعلم أن مصر بحاجة إلى مياه للري أكثر من إثيوبيا، ولذلك فمن غير المعقول أن نطالب بمساواة حصة إثيوبيا من المياه بحصة مصر ونحن لم نطلب أبداً مساواتنا بمصر.• إن حصة مصر من مياه النيل تتضمن المياه المهدرة في القنوات. فإذا كان المصريون سيخبروننا أن لديهم الحق في إهدار مياه النيل، أما أنتم الإثيوبيين فليس من حقكم أن تستغلوا لتراً واحداً من مياهكم، ولو كنتم تعانون الجوع، فإن المصريين، بهذا الشكل، لا يفكرون بطريقة معاصرة للقرن الحادي والعشرين.• ينبغي أن يكون هناك اعتراف متبادل بمصالح كل طرف منا على السواء، فاتفاقية 1959 لا تعترف بمصالح سبع دول من إجمالي تسع، بل إنها تعترف فقط بمصالح دولتين. فإذا كنت تصر على الاعتراف فقط بمصالح دولتين فبذلك أنت تغلق الباب أمام التعاون. إذاً فإن الخطوة الأولى من التعاون هي الاعتراف بمصالح بعضنا بعضاً، والاعتراف بالحاجة إلى الوصول إلى حل يعود بالنفع على الجميع.• متى تعلق الأمر بمصر وإثيوبيا، فليس هناك أدنى احتمال للانشقاق، وليس من المحتمل قطع العلاقات بين مصر وإثيوبيا. فقد ربط النيل بين مصر وإثيوبيا ومن المستحيل فصل أحدهما عن الآخر".بعد أيام قليلة قضيتها في إثيوبيا، ما يمكنني قوله إننا نحتاج إلى أن نقف من زوايا مختلفة ننظر إلى الصورة بتحرر من أساليب عفا عليها الزمن، ونتمسك بحقوق لن نتمكن من الحفاظ عليها، لو لم ندرك ذلك.