ها هو رمضان، شهر الرحمات والمغفرة، يلوح عند الباب يوشك أن يدخل، ليأتينا محملاً بالخير الكثير من ربنا الرحمن الرحيم.

Ad

وقد اعتاد كثير من الناس أن يجعلوا لهم في هذا الشهر المبارك أقداراً منوعة من الطاعات والقربات يضيفونها إلى التزامهم بفريضة الصيام.

يحرص البعض ممن أعرف على أن يخرج زكاة أمواله في هذا الشهر بالذات، في حين أن البعض يكثر من بذل الصدقات، في حين يعاهد البعض الآخر نفسه على قراءة القرآن وختمه لمرة أو أكثر، ويحرص غيرهم على أن يعتكف في المسجد لبعض الوقت، وغير ذلك.

ويجد هؤلاء الناس الميل في أنفسهم للقيام بهذه الأنشطة الدينية خلال هذا الشهر الفضيل مدفوعين بما له من جو روحاني محيط بالجميع، وما يشاهدونه من حماس مجتمعي نحو الأمر، وهو أمر طيب ولا شك، حتى لو اقتصر عند بعضهم وللأسف على شهر رمضان فقط.

مظهر العبادات والطاعات، أي الشكل الخارجي لها، مهم طبعاً كما أسلفت؛ لما له من تأثير "دعوي" على الناس، أي دعوتهم للإقبال والمشاركة، وهو ما يسمونه في الإدارة "التسويق"، ولذلك نرى امتلاء المساجد في الصلوات في هذا الشهر أكثر بكثير من حالها في سائر الشهور، ونشاهد حرصا واضحا على صلاتي التراويح والقيام، وزيادة في إخراج الصدقات وغيرها من الممارسات الدينية، لكن هذا كله، على قيمته، يظل منقوصاً إذا لم يواكبه، بل يسبقه، استحضار النية والإخلاص.

قيام الواحد منا بهذه الممارسات بشكل أوتوماتيكي روتيني لمجرد أن الشهر هو شهر رمضان، أو لمجرد أن الناس من حوله تفعل ذلك، دون إدراك حقيقي وتمثل عميق بالمعنى الجوهري لهذه العبادات يفرغها من محتواها، بل لعلّه، وهذا هو الأخطر، قد يخرجها من دائرة الخير ويدخلها في دائرة الشر إن هي علقت في شراك "التباهي والرياء والعُجب"!

ليس لازماً أن يختم الواحد منا تلاوة القرآن لعدة مرات في هذا الشهر، يسابق فيها الزمن لمجرد أن يقول لنفسه أو غيره أنه قد فعل ذلك، وذلك على حساب إدراكه لمعاني ما قرأه وفهمه وشعر به، بل يكفي الواحد أن يجعل له ورداً ثابتاً من التلاوة اليومية مع الاستغراق في التدبر والتفكر والتأمل لمعاني الآيات التي تمر عليه، ولو هو استطاع أن يخرج من رمضان وقد جعل من هذا الورد دأبه الدائم طوال أيام السنة لكان من الفائزين حقاً.

وليست العبرة في عدد الركعات التي يركعها الواحد في شهر رمضان، بل العبرة في مقدار الخشوع الذي سيحظى به فيها، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: "إن العبد ليصلي الصلاة ما يكتب له منها إلا عشرها تسعها ثمنها سبعها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها"، أي لن يكتب للمرء من صلاته إلا ما كان خاشعا فيه، ولهذا فلا فائدة جوهرية من الوقوف في المسجد لصلاة التراويح في حين أن الذهن والفؤاد يجولان ويصولان بعيداً في الخارج!

خلاصة القول أن علينا أن نحرص في المقام الأول على ما يحوك في نفوسنا أثناء قيامنا بهذه العبادات والقربات والطاعات، وأن نحرص أيضا على عبادات وقربات السر التي نخفيها عن أعين الناس، والتي قال عنها نبينا عليه الصلاة والسلام: "من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل".

نعم يا سادتي، علينا بالخبيئة الصالحة: مِن صلاة في ظلمة الليل، أو صدقة في السر، أو تلاوة لكتاب الله، أو مواساة لمسكين، أو إغاثة لملهوف، أو دعاء واستغفار وذكر للواحد الغفار، والله لا يضيع أجر المحسنين.

وكل عام وأنتم بخير وسعادة.