كيف تصف الصراع في الشرق الأوسط اليوم (سورية تحديداً)؟ حرب روافض ونواصب، أم «حروب الآخرين»، حرب بالوكالة، أم مازالت «ثورة شعبية» أم هي فتنة أو إرهاب؟
أرى انهياراً شاملاً لكل البنى السياسية التي نشأت على امتداد القرن الماضي. انهيار لأشكال الدولة التي حاول العرب بناءها بالمزج بين دولة العصبية المتغلبة والدولة الحديثة على الطريقة الغربية. بداهة أن هذا الانهيار يتأسس على تعمق التناقضات الاجتماعية والاقتصادية، إضافة الى تأثيرات العولمة. وهذا كلام عام جداً كما ترى، لكن تقليص دوائر النظر إلى أوضاعنا وحصرها في صراع سني- شيعي، أو مدني- ريفي أو غيرها من ثنائيات، يترك جوانب كثيرة من الواقع الذي نكابده من دون مقاربة جدية. أود الإضافة هنا أن الانهيار الشامل يترافق أيضاً مع إفلاس ثقافي لا يتمثل في فشل التعليم في العالم العربي، ذلك الفشل المريع في إنتاج كفاءات علمية وتقنية ومتخصصة في العلوم الانسانية فحسب. بل أيضاً في إيجاد منظومة مفاهيم ورؤى تتمكن من حسم جدالات عقيمة مستمرة منذ عشرات الأعوام على غرار السجال بين الأصالة والحداثة والدين والعلمانية. في اعتقادي أنه بات شديد الإلحاح فتح الباب واسعاً أمام حرية الفكر بالأشكال كافة والارتقاء إلى مستوى نقد الواقع بأداوت ثقافية وسياسية جدية. اتهمك بعض اليساريين بـ{الأسلمة}، كيف ترد على الاتهام، وكيف تقرأ هويتك الشخصية في هذه المرحلة؟ هل أنت في حيرة؟يعرف {بعض اليساريين} عن اليسار ومعناه وفكره وتاريخه بقدر معرفتي باللغة الصينية. ما يجعل من العبث مناقشة هؤلاء. هذا أولاً. وسأختصر في توضيح هذه النقطة بتكرار ما بات في مصاف القول السائد وهو أن الحديث عن الإسلام أو الطائفية أو الدين، لا يجعل من المتحدث بالضرورة إسلامياً أو طائفياً أو داعية إلى الدين. ولست معنياً بتقديم تعريف للطريقة التي يفكر فيها {البعض} وخلفياتهم السياسية ولا بتقديم دروس عن اليسار وماهيته. لكن النظر إلى الواقع يجعل الناظر يصطدم بحقائق لا يمكن الالتفاف حولها من نوع الدين والطائفة وبنية مجتمعاتنا القبلية العشائرية.أما الحيرة فليست في التوجهات والانحيازات السياسية الواضحة بالنسبة إلي جانب شعوب هذه المنطقة وحقها في الحرية والانعتاق من أنواع القيود كافة، بل هو الشك الضروري لعدم الركون إلى اليقين والاستمرار في التفكير خارج الصناديق المغلقة. كتبت في كتاب {نواصب وروافض} فصلاً بعنوان {خطوط الفصل وخيوط الوصل}، مفتّشاً في ساحة التنافس الأيديولوجي بين الطائفتين الشيعية والسنية في لبنان، خصوصاً القضية الفلسطينية، التي صارت موضوعاً مركزياً في الصراع لما تمثّله من رمزية. بعد الحرب السورية، كيف تقرأ التنافس وهل ما زالت القدس ورقة للتنافس؟في الثمانينيات مع بروز إيران الخمينية لاعباً إقليمياً، بدأ يتبلور هذا التنافس على القضية الفلسطينية. أظن أن الثورات العربية غيرت المناخ السياسي العام تغييراً جذرياً وسلطت الأضواء بقوة على ما كان عدد من الباحثين العرب أشار إليه منذ هزيمة 1967، أي أن القضية الفلسطينية هي الاسم الرمزي لمشكلة داخلية في المجتمعات العربية تضرب في الجذور الأعمق. والحال أن فلسطين لم تكن يوماً إلا أداة في الصراعات العربية- العربية ووسيلة لاكتساب الشرعية عند هذا الزعيم الانقلابي أو ذاك، وهذا ما ساهم في نهاية المطاف (من دون أن يكون العامل الوحيد) في تهميشها ووصولها إلى الطريق المسدود الذي بلغته.يفضل الجميع في هذه المرحلة الحفاظ على الرطانة القديمة وتقديم تصور لا ينتمي في الحقيقة إلى الواقع الموضوعي، ولا يعكس صورة الانتكاسات الضخمة التي منيت بها القضية الفلسطينية. بكلمات ثانية، أدخلت القضية إلى الثلاجة العربية الكبيرة في الوقت الذي تتابع فيه إسرائيل العمل على السيطرة على ما تبقى من أرض وتحطيم إرادة الفلسطينيين السياسية.عليه، تبقى القضية الفلسطينية ساحة للتنافس اللفظي ولكن لا يتوافر أدنى اهتمام بها بما يتجاوز بعض المعونات الإنسانية لسكان المخيمات، وأوضاع الفلسطينيين في سورية تشهد على ذلك.قلت في مقالة لك: {تقابل على أرض التاريخ رؤيتان، سنّية وشيعية، تصدران عن عقل واحد. تبحث كلتاهما عن تبرير عظيم وجليل لوجودهما وغلوهما في التطرف. تبحثان في التاريخ عن السياسة فتجدان بالضبط ما تريدان. قصص العداء والكراهية والتكفير المتبادل. أحاديث الروافض والنواصب والتكاره الممتد إلى بدايات الإسلام. ما قاله الصحابي هذا وما فعله الخليفة ذاك بأهل البيت. بيد أن أصحاب الرؤيتين هاتين يعلمون تمام العلم أن ما يسعون إليه هو تحقيق مصالح في الحاضر وليس ثأراً لزينب أو الحسين ولا تصحيحاً لغلو الشيعة}... ما الذي جعل هاتان الرؤيتان تختصران الزمن الحاضر وتسيطران على السياسة؟ما زلت عند رأيي أن الصراع السني- الشيعي الحالي مختلف جذرياً عن الصراعات المذهبية التي خاضها أهل الجماعتين في القرون الإسلامية الأولى وصولاً إلى الصراع الصفوي- العثماني. لا معنى لربط أحداث اليوم بالماضي السحيق غير إضفاء طابع غير عقلاني وغير قابل للحل على الواقع الراهن. فما يدور حولنا هذه الأيام مرتبط بأمرين كبيرين معاصرين أولهما التغير الذي شهده وضع الشيعة العرب منذ سقوط صدام حسين وتزايد قوتهم في العراق ولبنان وإحساسهم بالظلم التاريخي الذي تعرضوا له على أيدي النظام البعثي وغيره، من جهة، ومن جهة ثانية خروج إيران من مرحلة إعادة البناء بعد الحرب العراقية- الإيرانية والتي شغلتها طوال عقد التسعينيات عن أداء الدور الذي تعتقد أنها مؤهلة له في المنطقة، خصوصاً بعد انهيار {النظام الرسمي العربي}. تضافر هذان العاملان، بإرادة إيرانية واعية وبمشاعر اكتشاف القوة المستجدة، ليشكلا تحدياً جدياً في وجه الأنظمة العربية وفي وجه الأكثرية السنية في آن، فكان أن ظهرت ردود فعل تحاول بناء مراكز قوى سياسية وعسكرية تقابل التقدم الإيراني على طريق {التحدي والاستجابة} التي تحدث عنها المؤرخ أرنولد تويمبي، إذا شئت.عليه، لا معنى كبيراً {لتأصيل} فقهي عقدي لهذا الصراع ما دامت الأدبيات التي يكفر فيها السنة والشيعة بعضهم البعض موجودة في الكتب منذ مئات الأعوام، لكنها تطفو أو تغوص وفقاً للظرف السياسي. ويبدو اليوم أن الحاجة إلى استرجاع هذه الأدبيات حاضرة.سبق أن كتبت أن {ابن تيمية رجل المرحلة}، برأيك لماذا اللجوء إلى هذا الشيخ في هذه المرحلة بالذات؟دعنا ننظر إلى ابن تيمية في السياق التاريخي الذي أنتجه. كان {شيخ الإسلام} ابن عصر مضطرب سياسياً ومزدحم بالمدارس الفقهية والفلسفية. وكان العصر ذاته، عصر استخلاص العبر وجمع الحكمة المتراكمة من عصور الازدهار العربي- الإسلامي. ولا ننسى أنه جاء في مرحلة يود بعض الكتاب تسميتها مرحلة {طي الدفاتر وتسوية الحسابات} وظهر فيها ابن منظور اللغوي والغزالي الفقيه وابن رشد الفيلسوف...الخ. كانت مرحلة نهايات. حاول ابن تيمية إعطاء القول الفصل في ما نُمي إليه من علوم ومعارف فكتب في الفقه والفلسفة والعقائد والمعاملات الشيء الكثير. وكتب أيضاً في الانقسامات العقدية والطائفية متخذاً موقفاً صارماً في دفاعه عمّا رأى أنه الإسلام القويم. لكنه في الواقع إسلام الأزمة والحصار والضيق من تكاثر الأعداء وتكالبهم.يرى البعض أن مناخاً مشابهاً لذاك الذي عاش ابن تيمية في ظله حيث يعاني المسلمون {الحقيقيون} ظلم الطغاة المحليين وتهديد الخارج الكافر. وعلى هؤلاء المسلمون التصرف للدفاع عن دينهم ودنياهم وعن منظومة القيم التي يرونها أقرب إلى الإسلام كما يفهمونه. عليه، يقدم ابن تيمية أجوبة دقيقة لأسئلة تبدو راهنة ويسهل اللجوء إلى أحكامه ومواقفه والتشبه بسلوكه في التصدي للحكام (المماليك في عصره والتابعين للخارج اليوم، بحسب رؤية أنصاره).هل {المظلومية} السنية الشيعية مجرد خدعة سياسية؟ليس تماماً. تقوم المظلومية على أسس الشعور بعدم نيل المكانة المستحقة. أسست حادثة كربلاء المظلومية الشيعية التي تجري استعادتها حتى في وجه الحكام الشيعة، على ما جرى مع شاه إيران السابق. أما المظلومية السنية فتبرز في البلدان التي تتعرض فيها الطائفة السنية إلى خطر التهميش السياسي، على ما جرى في سورية وعلى ما يشعر به السنة في العراق ولبنان. المشكلة الأعمق هي في تعريف الجماعة لنفسها وبالتالي لحقوقها، ما يجعلها تصطدم بحقوق الجماعات المنافسة. غني عن البيان أن هذا النوع من {السياسة} يدمر كل إمكان لبناء دولة حديثة تستند إلى القانون والمواطن الفرد، ويحول الحياة العامة إلى منازعات لا تنتهي حول حقيقة الظلم ومن هو {المظلوم}.ركز بعض المستشرقين دراساته على {الفتنة} في الإسلام، هل كان هذا لأجل البحث أم لأغراض أخرى؟ برأيك لو عاد المستشرقون الآن إلى الشرق الأوسط، ما الاستنتاج الذي يمكن أن يخرجوا به؟إضافة إلى المستشرقين، نتذكر هنا مثلاً طه حسين الذي خصص جزءاً مهماً من كتاباته المتأخرة للسيرة النبوية وللفتنة وأحداثها. وثمة باحثون مرموقون مثل هشام جعيط وغيره من كتاب معاصرين اهتموا بهذه الظاهرة الإشكالية والمؤسسة في الوقت ذاته للسردية التاريخية العربية الإسلامية. ولا ننسى أن المؤرخين والإخباريين العرب والمسلمين القدماء أولوا الفتنة اهتماماً كبيراً. برأيي، يصدر الاهتمام عن عدم رغبة المؤسسات الدينية والسياسية الرسمية العربية خصوصاً على بت هذا الخلاف وإبعاد الدين عن السياسة أو الفصل بينهما. تفيد الفتنة كثيراً في إبقاء الرابط بين المعطى الديني وذاك السياسي.أما المستشرقون فقد تناولوها كل من منظاره ومن مصدر اهتمامه. ثمة من أدرجها ضمن رؤيته النمطية للعرب والمسلمين، وثمة من جرَّب الخروج منها باستنتاجات سياسية أكثر تقدماً.لماذا وصم مؤرخو السلطة كل حركة اجتماعية بالفتنة وحاربوها؟أعتقد أن الجواب بسيط. فهم مؤرخو السلطة القائمة وهذه، تعريفاً، مناهضة لكل تغيير قد تنطوي عليه الحركات الاجتماعية. بكلمات ثانية، يستعيد المؤرخون المذكورون النموذج الأكثر سلبية في التاريخ الإسلامي ويسقطونه على الحاضر كنوع من التحذير من الفوضى والانقسام وانهيار السلطة.يعتبر البعض أن التعددية المذهبية سمحت لمزيد من الفرقة بين المسلمين وبالتالي انتشار الفتن بينهم؟لا أظن. ما من دين كبير واحد في العالم، أو حتى أيديولوجيا سياسية وضعية إلا ومرت في سلسلة طويلة من الانقسامات والانشقاقات عليها. هذا أمر يكاد يداني البداهة بسبب تعدد الطباع والمصالح والانتماءات وصروف الزمن والتغيرات المتعدد. ومنذ مرحلة الإسلام المبكر كانت هناك إشارات إلى تفسيرات دينية- سياسية مختلفة تتعلق بالولاءات القبلية والجهوية وأهالي الأمصار ومصالح المسلمين من غير العرب. ومفهوم أن تبحث كل فئة عما يحميها ويخفف عنها أعباء الحياة والتعامل مع السلطة. على سبيل المثال، وإلى جانب الصراعات الشهيرة بين السنة والشيعة وبين الخوارج وخصومهم، شهدت فارس صراعات عنيفة داخل أهل السنة بين أتباع المذهبين الحنفي والشافعي لأسباب تتعلق بالميول الفارسية القومية عند الأول ولرغبة الآخرين في إضفاء المزيد من التعريب على الحياة العامة. إذاً المشكلة هنا، وفي غيرها من أماكن أيضاً، ليست مسألة دينية فقهية بقدر ما تتعلق بأنماط السلطة والحكم والمصالح والثقافة بمعناها الواسع.يمكن هنا التوقف عند مسألة منهجية، إذا جاز القول، خلاصتها أن كلمة الفتنة غالباً ما تستخدم في سياق ديني أو مذهبي ولكنها في واقع الأمر تنطوي على معنى عبارة «الحرب الأهلية». عليه، كثير من «الفتن» هي حروب أهلية يمكن العثور على مسوغاتها ودوافعها على الأرض وبين البشر وليس في الخلافات الدينية والطائفية. لماذا يصنف علماء الدين التقليديون أي محاولة للتجديد بأنها فتنة؟لأنها تتحدى السلطة القائمة بغض النظر عن اسمها الدقيق. والعلماء التقليديون هم صوت السلطة ويدها.
توابل
الباحث والصحافي حسام عيتاني: القضية الفلسطينية اسم رمزي لمشكلة داخلية في المجتمعات العربية
02-07-2014