لا أدري لماذا نسيِتْ (فاطمة) أن تنسى؟! رغم أن الحظ قد ابتسم لها في النهاية! ورغم أنها انتصرت على حياة كان ينقصها العنفوان والتحقّق والحرية؟ وإن كان انتصاراً أشبه بحكايات الجدّات اللاتي يختمنها (بالتبات والنبات)، وخلفة الصبيان والبنات!

Ad

وأنا بصدد الكتابة عن رواية (كبرتُ ونسيتُ أن أنسى) لبثينة العيسى، وفي يوم تحرير هذا المقال الذي يصادف السبت الثامن من مارس، وهو كما يُقال اليوم العالمي للمرأة، أجدني مستثارة ومتحفّزة لعدة أسباب.

منها أنني لم أجد مقالاً واحداً لرجل حول هذا اليوم (المجيد) في أي من الصحافة المحلية! ومنها أن ما تكتبه النساء أو يصرحن به لا يخرج عن كلام (ماسخ) وباهت عن حقوق (وما حقوق)، وكله كلام مرسَل في الهواء حيث لا قلب يعي ولا أذن تسمع! ومن الأسباب أيضاً أننا – يا للعجب – في شهر مارس، وهو شهر الأمومة والأنوثة والخصوبة، حيث يختلف إيقاع الحياة، وتضجّ الأرض بالتجدّد والنماء والحمل والولادة وإعادة صياغة الوجود. بينما – نحن النساء – ننظر ببلاهة من وراء زجاج غرف النوم، ثم نسدل الستائر، لننغمس في روتين يومٍ عادي آخر!

 نعود إلى (فاطمة) بثينة العيسى، التي شكّلت لديّ سبباً رابعاً للاستفزاز، حين مثلّت بجدارة عيّنة من ذلك الخنوع الأنثوي، الغائص في وحل تقاليد وأعراف أسرية جائرة. حين تُربّى البنت في بيئة لا تعزّز فيها غير الشعور بقلة الشأن والاحتقار والاستهانة بمواهبها وإنسانيتها. هذا عدا عن مصادرة الحرية والإرادة، وإعدادها غنيمة سائغة لزيجة تكمل بها دورها في الحياة، كأداة للمتعة والخدمة والإنجاب. لن نلوم الكاتبة لاختيارها هذا النموذج النسوي البائس، فهو موجود بوفرة في عالمنا وحياتنا الحاضرة. بل لعله بات أكثر وفرة بتراجع المجتمع نحو الانغلاق والمحافظة الطارئة والتدين المفتعل. ولكن التساؤل يثور حول مدى قدرة هذا النموذج النسوي الفاقد للسويّة العقلية والنفسية على التغيّر المفاجئ، أو بالأحرى الانقلاب الجذري فيما يتعلّق بنمو الشخصية؟ نطلق هذا السؤال على مستوى الواقعية المحتملة في الرواية، كون الشخصية مقتبسة من الواقع الاجتماعي الراهن. أما إذا كانت (فاطمة) مجرد شخصية خيالية، فالسؤال حينها ليس له موقع من الإعراب.

 في سياق القص نجد (فاطمة) التي شبعت قمعاً واحتقاراً وتسلطاً، نجدها فجأة وقد واتتها الشجاعة أن تهرب من بيت الزوجية، بل وتستأجر لها غرفة في فندق ثلاث نجوم. ثم ترتفع درجة (الحظ) لديها، حين تتمكن صديقتها من ترتيب مسألة طلاقها في جلسة واحدة، لتجد نفسها بعد ذلك حرة طليقة. وتصل رحمة الأقدار إلى مداها، حين تجد الحبيب السابق رهن الإشارة، يأتي ليصلح ما أفسده الزمن، ويضع النهاية السعيدة (بالتبات والنبات) وخلفة الصبيان والبنات. ونحن نقول لو كانت الحياة بهذا الترتيب الجميل، لما احتاجت النساء المعنَّفات، والمغتصَبات، والمضطهدات، والخاضعات للعنصرية والتمييز حول العالم، واللواتي تسجل لهن الإحصائيات ارتفاعاً مطرداً، نقول لمَا احتجن للولولة والدموع والآهات، ولوضَعَ الروائيون نهايات وردية لآلامهن ومعاناتهن.

بيد أن المسألة أكثر تعقيداً وإيغالاً من خيال روائي، وأكثر حاجة للنبش في عقلية المجتمع وأنماط تفكيره، وآليات تغيير تلك القيم والمعتقدات. مما يعني اشتغالاً أكثر على دراسة هذا الموروث المجتمعي من قبل الروائي، والبحث في جذوره وسياقاته التاريخية، قبل القفز إلى حلول ساذجة ينقصها النضج والمنطق.

بيد أن رواية (كبرتُ ونسيتُ أن أنسى) لم تخلُ من الشعريّة اللغوية، وأحياناً التطعيم بمقالات حول الأدب ودروس في التذوق الأدبي وصنعة الكتابة، كما في فصل: في البدء كانت الكلمة. بل اتسع المجال للشعر المحض، وإطلاق العنان للنصوص الشعرية. نجد ذلك  في الفصول التي خُصصتْ لتبادل رسائل البريد الإلكتروني بين فاطمة وعصام، والتي عبّرت عن جانب وجداني خصب، وخيال نادر، واتكاء على مرجعية شعرية راسخة. وغالباً ما كانت هذه المرجعية مما هو معروف ومتداول، الأمر الذي لا يستوجب تخصيص ثبت بالمراجع في نهاية الكتاب، كما فعلت الكاتبة.

 بقي أن نقول بأننا لا نشك بقدرة الكاتبة على التمييز والفرز بين اللغة الروائية واللغة الشعرية، وحبذا لو اشتغلت بجدّ على أدوات الرواية وتقنياتها في هذا الكتاب، وخصصت للشعر كتاباً آخر.