لقد أنجزت مصر الخطوة الثانية الرئيسة في «خريطة طريق المستقبل» بنجاح لافت، وبات المشير السيسي رئيساً متمتعاً بالشرعية السياسية والقانونية، بعدما فاز باكتساح في الانتخابات الرئاسية، التي جرت الأسبوع الماضي، والتي اعتبرت جهات المراقبة الدولية أنها «انتخابات سليمة»، رغم بعض الانتهاكات والملاحظات الهامشية، التي لن تكون قادرة على التشكيك في نزاهتها.

Ad

داخلياً؛ سيبدأ المشير السيسي في مواجهة تحديات جسام؛ بعضها يتعلق بالتحدي الإرهابي الذي يجسده «تنظيم الإخوان»، وبعض حلفائه في الداخل والخارج، وأخطرها يتصل بضرورة انتشال البلد من حالة الإرهاق والفقر والانفلات والتخبط الموروثة من عهد مبارك والفترة الانتقالية الشائكة الصعبة التي تلته، ليصل إلى أول الطريق الصحيح، قبل أن يواصل البناء لتعويض ما فات.

فماذا تعني رئاسة السيسي بالنسبة إلى دول الخليج العربية؟ باستثناء قطر، لا بد أن قصور الحكم في الدول الخليجية الخمس الأخرى احتفلت بشكل أو بآخر في الأيام القليلة الفائتة؛ مرة لأن مصر خرجت من نفق طويل معتم وعفن تحت حكم «الإخوان»، ومن ربقة تهديدهم، ومرة ثانية لأن رؤية تلك الدول حيال مصر ووضعها الإقليمي تتحقق باطراد، ومرة ثالثة لأن «الاستثمار الخليجي الضخم» في «مشروع السيسي» بدأ يجلب ثماراً.

لقد تلقت «خريطة طريق المستقبل»، التي أعلنها المشير السيسي نفسه، في 3 يوليو الفائت، مستنداً إلى حشود جماهيرية مذهلة انتفضت ضد حكم «الإخوان»، وتأييد معظم القوى الوطنية الرئيسة، دعماً سخياً من السعودية والإمارات والكويت، وتأييداً واضحاً من البحرين، وقبولاً من سلطنة عمان.

ألمح السيسي نفسه في مقابلة تلفزيونية أجراها عشية الانتخابات إلى أن حجم المعونات التي حصلت عليها مصر من السعودية والإمارات والكويت يتخطى الـ20 مليار دولار، فضلاً عن كثير من المعونات العينية التي تمثلت بمعدات ومشروعات وإمدادات وقود.

كما أنه أعرب عن تقدير كبير لدور الملك عبدالله تحديداً، وأشاد بقوة بمساندة القيادة الإماراتية مستذكراً مآثر الشيخ زايد، كما أثنى على الدعم الكويتي، خصوصاً في ما يتعلق بالمساندة السياسية القاطعة والحاسمة، والتي كان لها أثر كبير في تخفيف الضغوط الغربية على مسار «30 يونيو» حين كان محل تشكيك وأكثر قابلية للطعن والانقضاض عليه.

تشير كل المعطيات المؤكدة في هذا الصدد إلى أن تلك الدول الخليجية الثلاث تحديداً لعبت دوراً استراتيجياً في مساندة هذا المسار، وأنه لولا هذا الدور لكان من الممكن أن تتعثر مصر في إنجاز تلك الخطوة، وبالتالي تصبح المنطقة كلها مفتوحة على احتمالات كارثية سوداء.

ولذلك، فقد تواترت المؤشرات التي تؤكد أن مصر، في ظل قيادة السيسي، تدرك، وتقدر هذا الدعم الحيوي، وأنها أيضاً قادرة على مبادلته بما يستحقه ويليق به على صعيد العلاقات المصرية- الخليجية.

في الشهور الـ11 الأخيرة، تواترت تقارير عن صفقة سلاح روسي لمصر تمولها السعودية والإمارات، بقيمة تبلغ نحو ثلاثة مليارات دولار، وهي التقارير التي تعززت بزيارة ناجحة قام بها المشير السيسي حين كان وزيراً للدفاع لموسكو، حيث التقى الرئيس بوتين، للتأسيس لتعاون مصري- روسي، بدا أنه يتقدم باطراد.

وفي غضون ذلك، أقامت القوات المسلحة المصرية مناورات مع نظيراتها في كل من السعودية والإمارات والبحرين. كما جرى الحديث عن احتمالات «إنشاء قاعدة عسكرية مصرية» في دولة الإمارات، على ألسنة عدد من المحللين؛ وهو حديث لم ينفه أي طرف مسؤول في البلدين. وإضافة إلى ذلك، فقد أشارت تقارير إلى أن «اتفاق الرياض»، الذي تم توقيعه بين دول الخليج الخمس من جهة وقطر من جهة أخرى، تضمن اتفاقاً ضمنياً على «تحجيم السياسات القطرية» المعاندة للتطورات السياسية في مصر، وخصوصاً تلك التي تطاول تنظيم «الإخوان» وقياداته وحراكه العنفي والتخريبي على الأرض.

يمكن القول إن تلك المعطيات تشير إلى ما يمكن اعتباره تكريساً لـ»تحالف مصري- خليجي استراتيجي» أكثر عمقاً من ذلك الذي كان قائماً في ظل رئاسة مبارك، وأكثر ديناميكية واتساعاً وتركيزاً على الجانب الأمني، دون أن يغفل المجالات الأخرى.

من الجانب المصري، كان تأكيد السيسي، ووزير الدفاع صدقي صبحي، واضحاً على أن «أمن مصر من أمن الخليج»، وأن كلا الجانبين يمثل «عمقاً استراتيجياً» للجانب الآخر. وأكثر من ذلك حدث، حين سئل السيسي نفسه في مقابلة أجرتها معه قناة «سكاي نيوز العربية» عن دور القوات المسلحة المصرية إزاء أمن الخليج، إذ قال بوضوح: «سنكون حاضرين مسافة السكة».

تعني تلك العبارة، بما لا يدع مجالاً للشك، أن مصر، في ظل قيادة السيسي، تعتبر أن أي تهديد لأمن دول الخليج العربية، خصوصاً السعودية والإمارات والكويت، بمنزلة تهديد لأمنها، وبالتالي فإنها ستضع كل قوتها «الناعمة والصلبة» ضد أي استهداف عدائي لتلك الدول.

سيمكننا أن نعتبر أن محوراً جديداً نشأ في الإقليم، وأن هذا المحور يضم السعودية والإمارات والكويت والبحرين إلى جانب مصر، وأنه لن يكون «محوراً سياسياً» يكتفي بالتنسيق والدعم السياسي المتبادل فقط، كما لن يقتصر على التعاون الاقتصادي، ولن يكتفي بالتبادل التجاري والثقافي والمساندة الإعلامية، لكنه سيتجاوز كل ذلك إلى ما يمكن اعتباره تفعيلاً لآلية «دفاع مشترك»، وتعاون أمني لا يخص حماية السيادة والسلامة الترابية فقط، ولكنه يمتد ليشمل أيضاً مجابهة التهديدات الأمنية بكل صورها.

ستنشأ بعض المشكلات التي يمكن أن تحد من تطور هذا التحالف أو تقلص فاعليته؛ منها أن مصر في حاجة إلى مزيد من الدعم المادي لتكون قادرة على مجابهة التحديات الداخلية، بما يمكنها من الوفاء بدورها في هذا الاستحقاق الخارجي. ومن تلك التحديات أيضاً ما يتصل بالضغوط الدولية المتمثلة بالسياسات الأميركية التي لا تفضل أن تكون هناك «قوة صلبة» أخرى قادرة على تغيير موازين الصراع أو التنافس في هذا الإقليم الحيوي لها وللعالم أجمع.

ومن بينها أيضاً ما يتعلق بالعنصر الإيراني الذي سيعتبر أن هذا المحور الجديد يمثل خصماً من قدراته، وتحجيماً لتفوقه، الذي يطمح الى أن يمكّنه من فرض هيمنة إقليمية على الساحل الغربي للخليج.

أما أكثر تلك المشكلات حساسية فهي تلك التي تتصل بالعنصر القطري، والذي يمكن أن يشكل حرجاً بالغاً لدول ذلك المحور الخليجية، خاصة إذا اضطرها لاتخاذ خطوات أكثر فاعلية إزاءه، في إطار محاولتها لتطويق آثاره السلبية على الأوضاع في مصر.

ستكون مصر مطالبة بأن تنجز بفاعلية بقية استحقاقات «خريطة طريق المستقبل»، بما يتضمنه ذلك من احتواء السيسي لمخاطر الإرهاب والمعارضة الداخلية المدعومة من الخارج، والاستجابة للتحديات الاقتصادية الصعبة في ظل ضخامة الدين، وتهاوي الاقتصاد، ومحدودية الموارد، وزيادة التوقعات، وهو الأمر الذي سيمكنها من الوفاء بدورها على النحو الأمثل في إطار هذا المحور الجديد.

كما ستكون دول الخليج مطالبة بتحدي بعض الضغوط الداخلية، ومواصلة تقديم الدعم المادي «السخي» لمصر لمساعدتها في النهوض، وهو أمر لا يبدو صعباً، لكن ما سيكون صعباً حقاً هو قدرتها على مجابهة الحذر الأميركي، والتدبير الإيراني، والسلوك القطري الذي يصعب جداً توقعه.

* كاتب مصري