الإعلامي الكبير حمدي قنديل يروي ذكرياته: «عشت مرتين»

Ad

يصل الإعلامي حمدي قنديل في الحلقة الثالثة من مذكراته إلى العديد من المحطات العربية المهمة في حياته، يلتقي خلالها شخصيات عربية مؤثرة عدة، منها الرئيس السوري بشار الأسد الذي تحاور معه ثلاث مرات حول قضايا المقاومة والجولان والمعتقلين السياسيين... ويتطرق قنديل إلى سرد بعض القصص حول علاقاته مع كثير من السياسيين والإعلاميين والمثقفين السوريين، خلال فترة الوحدة العربية بين مصر وسورية، ومن أبرزهم د. جمال الدين الأتاسي ود. عبدالكريم زهور.

ظهرت نتيجة امتحانات ثانية طب في المساء، ونقلت إلى السنة الثالثة وإن كان عليَّ أن أدخل امتحان الإعادة بعد شهور في التشريح والفسيولوجي، ولكنني قبل أن أذهب إلى البيت لأخبر العائلة بالنتيجة، توجهت أولاً إلى أخبار اليوم لعلِّي أستطيع مقابلة الأستاذ مصطفى أمين.

لم تستغرق المقابلة سوى بضع دقائق فوجئت به بعدها يطلب سكرتيره سليم زبال بالتليفون ويبلغه أنني سأعمل محرراً في مجلة «آخر ساعة»، وأن مرتبي سيكون 15 جنيهاً شهرياً.

بعد ذلك جاءني زميلي محمد العزبي يبلغني أن هناك عرضاً من مجلة «التحرير» له ولي للعمل فيها مقابل راتب قدره خمسة وعشرون جنيهاً.

وكانت مجلة «التحرير» تصدر عن «دار التحرير للطبع والنشر» التي تصدر كذلك جريدة «الجمهورية»، وكانت الدار قد أنشئت في سنة 1953 لتتحدث بلسان الثورة، وكان رئيس تحرير المجلة هو المقدم عبدالعزيز صادق أحد أعضاء الصف الثاني من «الضباط الأحرار»، ولم يكن تولي ضباط لمثل هذه المهام أمراً يلفت النظر في تلك الأيام التي بدأ فيها الضباط يتسربون إلى الصحافة والإذاعة.

آه يا دمشق

طلب مني زميلي في مجلة «التحرير» أسعد حسني في فبراير 1959 أن نلتقي مع نصوح بابيل نقيب الصحافيين في سورية وصاحب جريدة «الأيام»، ذهبنا إلى هناك وأنا على يقين أن أسعد رتب لي اللقاء حتى أجري حديثاً للمجلة مع الرجل، وأنه صاحبني لأنه صديق له.

لم تستغرق المقابلة سوى وقت قصير للغاية، كل ما فهمته في الدقائق الأولى أنه متحمس للوحدة بين مصر وسورية، وبعدها دخل مباشرة في الموضوع، جريدته جريدة عريقة وشهيرة في سورية، وهو راضٍ عنها تماماً، إلا أنه غير راضٍ عن إخراجها الصحافي؛ ولذلك فهو يعرض عليَّ أن أكون مسؤولا عن ذلك، وفاجأني الرجل بأنه يود لو أجبته في الحال إذا كنت على استعداد للسفر معه إلى دمشق خلال الأسبوع نفسه.

أجبتُ بالإيجاب حتى قبل أن أعرف الراتب الذي سيعرضه؛ وعندما أخبرت أبي بالأمر سألني سؤالاً واحداً: «وما الذي ستفعله بدراستك؟» قلت إن زملائي سوف يوافونني بالكتب والمذكرات، ووعدت بالحضور إلى القاهرة لأداء الامتحان، كنتُ على يقين أن العائلة لن تمانع؛ فقد رباني أبي وأمي على حب السفر، بل كانا يحرضانني عليه.

كنت قد سافرت في سنة 1958 إلى سورية، وكانت الوحدة وقتها قد أعلنت، وكان معي زميلي السابق في كلية الطب صبري أيوب نصيف.

في اليوم التالي للزيارة تلقيت مكالمة هاتفية في الفندق، قال المتحدث إنه المقدم طلعت صدقي من المكتب الثاني، أي مخابرات الإقليم الشمالي، وأنه يريد أن يقابلني.

قال إنه يود أن يحدثني في موضوع مهم «يا أخ حمدي لماذا تعملون وحدكم؟» لم أفهم السؤال، ولكنه استمر يسأل: «لماذا لا تستعينون بنا؟ هل تعتقدون أنه بعد أن تقضوا في دمشق أياماً معدودة فقط تستطيعون الحصول على المعلومات الصحيحة اللازمة؟».

مهربو البن

بدأت مقاصده تتضح فنفيت أي صلة لنا بالمخابرات المصرية، فقال لي: «سواء كنتم تعملون للمخابرات المصرية أم لا، فسوف أعرض عليك الآن عرضاً أرجو ألا تتحرج من رفضه على الفور لو أردت، أما إذا كنت تود أن تقدم لسورية وللعروبة خدمة فسوف أكون شاكراً».

صمتَ بُرهة وصمت أنا الآخر، فاستطرد يقول: «تعرف مشكلة لواء الإسكندرونة»، قلت: «أعرفها... هذه أرض سورية استولى عليها الأتراك»، قال: «ونحن نجاهد من أجل استردادها، ويعمل فيها رجالنا على الدوام، ولكن مجموعة منهم ألقي القبض عليهم في العام الماضي، وهم الآن يحاكمون، ولدينا رسالة يمكن أن تساعد على تبرئتهم، وهذه الرسالة نريد تسليمها إلى القنصل (السوري) في إسطنبول».

ذكر لي اسم القنصل الذي لا يحضرني الآن، وسألني إذا ما كنت على استعداد لتوصيل الرسالة، أشهد أنه نبهني بشدة إلى مخاطر المهمة، وأبلغني أن المخابرات التركية لو ضبطت الرسالة معي أثناء التفتيش الدقيق على الحدود فربما يكون مصيري الإعدام.

وافقت دون تردد، ولكنني قلت إن لي شرطاً واحداً هو أن أبلغ السفير في أنقرة، التي سأزورها بعد زيارتي لإسطنبول، قال: «افعل ما ترى.. المهم أن تصل الرسالة بسرعة».

قدَّرت أنه مادامت الصحف العربية ممنوعة في تركيا، فسوف تلفت المجلة نظر ضابط الجمرك، والأرجح أنه سيركز اهتمامه فيها، وبذلك لن يلتفت إلى المظروف، يا إلهي، هذا ما حدث تماماً، عندما بلغنا نقطة الحدود التركية، صادر الضابط المجلة ولم يفتش الحقيبة، أحمدك يا رب، السؤال الوحيد الذي سأله لي الضابط، هو ما إذا كان معي «بُن» أم لا، وهو السؤال نفسه الذي وجهه لكل الذين معنا في السيارة؛ إذ يبدو أن مهربي «البُن» كانوا كثيرا ما يستخدمون هذا الطريق.

عندما وصلنا الى إسطنبول أخذت أعد الساعات حتى يأتي الصباح وأسلم الرسالة، كانت تعليمات طلعت صدقي ألا أتصل بالقنصل، وإنما أن أذهب إلى القنصلية في الصباح كمواطن عادي وأطلب مقابلته، وسوف يكون مستعداً لاستقبالي، وهذا ما حدث، بعدها ذهبت إلى أنقرة وأبلغت السفير بالأمر.

مرشح دمشقي

منذ اليوم الأول عاملني نصوح بابيل كأب لا كصاحب عمل، كان حريصاً على راحتي الشخصية أولاً، على سكني وما إلى ذلك، بل إنه وفقاً للعقد الذي وقعناه كان عليه أن يدفع لي أجر شهر مقدماً، إلا أنه قال إنه ملتزم بوعده لكنه سيعطيني نصف المبلغ فقط، خشية أن تضيع الفلوس في «الكلام الفارغ» إذا ما تسلمتها دفعة واحدة، وقال إنه سيحتفظ بالباقي لديه إلى أن أطلبه وقت الحاجة.

حين غادرت الجريدة بعد انتهاء فترة عملي المؤقتة بها، شاءت المصادفات أن ينطلق مشروع لصحيفة يومية جديدة في دمشق هي جريدة «الجماهير» التي التحقت بالعمل بها بدعوة من القائمين عليها، وكان وراءها قطبان شهيران في حزب البعث، د.جمال الدين الأتاسي ود.عبدالكريم زهور، وكان كل منهما يمثل جناحاً ذا صبغة اشتراكية مميزة في الحزب الذي أصدر قراراً بحل نفسه في اليوم التالي لإعلان الوحدة، أي في 23 فبراير 1958.

انتظم العمل، ولم يكن هناك ما ينغصني سوى ذلك التوتر المكتوم بين مؤسسي الجريدة وعبدالحميد السراج الذي أصبح وزيراً لداخلية الوحدة ورئيسا للمكتب التنفيذي للإقليم الشمالي، وكان هذا التوتر يعكس في حقيقته العلاقة المضطربة بين البعث والسراج؛ أقرب الضباط السوريين إلى عبدالناصر.

أُعلن وقتها عن إجراء الاتحاد القومي لأول انتخابات له في دولة الوحدة التي كنت واحداً من الملايين المتحمسة لها، فقررت أن أرشح نفسي في دمشق لمجرد أن أؤكد أن هذه الوحدة واقع وليس مجرد شعارات.

بيروت الحلم

قدمت أوراقي إلى وزارة الداخلية كما هو مقرر، ولكن لم تمضِ أيام حتى اتصل بي ضابط مصري شاب يعمل في مكتب الاتصال المصري في «الداخلية» السورية، وهو المكتب المعني بشؤون المواطنين المصريين المقيمين في الإقليم الشمالي، وطلب مني الذهاب إليه، وفي مكتبه فاجأني عندما طلب مني سحب ترشيحي، عندما سألت عن السبب، قال: «أصارحك، أنت المصري الوحيد الذي رشح نفسه في سورية، وإذا سقطت في الانتخابات فسوف يستغل ذلك للنيل من الوحدة»، عبثاً حاولت أن أجادل، فقد قال الضابط بحسم: «أمامك 48 ساعة لتقرر وإلا فإننا سوف نصادر بطاقتك الشخصية ونعتبر ترشحك لاغياً».

نشرت مقالاً في «الجماهير» حكيت فيه القصة بتفاصيلها، وفي اليوم التالي وصلني إخطار رسمي بأن ترشيحي اعتبر لاغياً لأن «أوراقه ليست مُكتملة»، وصودرت البطاقة.

لم تمضِ أيام حتى وقعت أزمة أخرى داخل الجريدة بسبب تحقيق صحافي قام بنشره صديقي الصحافي المصري الشهير سعد زغلول فؤاد.

بعد واقعة التحقيق الصحافي الذي أعده زميلي سعد زغلول فؤاد بأيام وصلني مقال د. جمال الأتاسي قبل أن أتناول إفطاري، فقد كان معتاداً أن يرسل مقالاته بانتظام، كانت مقدمة المقال معتادة تعكس الأزمة المألوفة مع السراج ومع السلطة في القاهرة التي كتب عنها الأتاسي مرات من قبل، ولكن اللهجة هذه المرة كانت حادة، بل إنها تصاعدت حتى قال الأتاسي في نهاية المقال: «عندما توصلت مع أخي عبدالكريم زهور إلى تحليل المرحلة، والمخاطر الخارجية والداخلية، وسيادة عقلية كمال الدين حسين وعبدالقادر حاتم وغيرهما في إدارة المجتمع على النقيض من عقلية الرئيس عبدالناصر، وجدنا أن الحل الوحيد المتاح لنا هو الاعتصام بالصمت كتعبير عن الاحتجاج»، وهكذا صمتت «الجماهير» وتوقفت عن الصدور في عام 1959.

قال سعد: «لا تحمل همّا.. سنسافر إلى بيروت».. كانت بيروت بالنسبة لي حلماً لم أستطع تحقيقه طوال إقامتي في دمشق، وكانت وقتها مركز السياحة والتجارة في المنطقة، وقبل هذا وذاك منبر الصحافة العربية الحرة.

السرير الخالي

حزمنا حقيبتينا، ووضعناهما في سيارته «الفورد» العتيقة المكشوفة، وانطلقت بنا السيارة صوب الحدود اللبنانية عبر طرق جبلية يعرفها سعد جيداً، وعندما عبرنا الحدود إذا بالجو يمتلئ فجأة بأزيز الرصاص.

قال سعد: «لا تخشَ شيئاً، هذه الطلقات هي تحية لقدومنا، فنحن الآن في أرض لبنانية يقيم بها الدروز التابعون للشيخ شبلي أغا العريان، وهو ورجاله أصدقائي منذ كنت أهرِّب لهم السلاح في العام الماضي عندما كانوا يقاومون الرئيس اللبناني كميل شمعون الذي استدعى الأسطول السادس لضرب مصر وسورية»، وهكذا واصلنا السير إلى قلب بيروت حيث أقمنا في فندق متواضع صغير.

كان الفندق في «ساحة البرج»، لم أعد أذكر اسمه، وكان أفضل ما يميزه أنه كان يقبل الزبائن دون حاجة إلى جواز سفر، أما أسوأ ما فيه فكان الغرفة التي أعطوها لنا، فقد كان في الغرفة سرير ثالث خالٍ ولكنه شغل في اليوم التالي بزبون جديد كان شابا أميركيا في عمرنا.

في المساء أخذني سعد إلى شرفة الغرفة المطلة على الساحة وهو بادي الغضب.. قال: «الواد ده CIA، لازم نمشي».. عذرته، إذ كان قد قضى الكثير من أيامه مطارداً فقلت: «في كل الأحوال أنا لا أستطيع البقاء معه تحت سقف واحد.. رائحة جواربه تقتلني».

لقاءات أسدية

لم تتح لي فرصة اللقاء بالأسد الأب من قبل، ولكني التقيت الرئيس بشار مرات عدة عامي 2006 و2008.

عندما جلسنا معاً في أول لقاء، عام 2006 قلت له: «يا دكتور بشار، أنتم لم تستفيدوا من درس الانفصال بين مصر وسورية، وأنت تعرف أن واحداً من أسبابه كان سلوك بعض ضباط القيادة المصريين المقيمين في دمشق، أنتم الآن تكررون الخطأ نفسه، لكنه بدلاً من أن تكون سورية هي المفعول به أصبحت هي الفاعل».

وعندما أوشكت المقابلة أن تنتهي قلت: «يا سيادة الرئيس، إن كان لي أن أطلب منك شيئاً واحداً قبل أن أغادر فهو ضرورة أن تقود بنفسك انفراجة سياسية داخلية، وأن تقترب من معارضيك وأن تفرج عن المعتقلين السياسيين»، فقال: «وعد سوف أفي به، ولنّا في ذلك لقاء آخر».

وجاء اللقاء الثاني بعدها بأسابيع، سافرت إلى لبنان ضمن وفد شعبي مصري بعد نشوب حرب يوليو 2006 مباشرة، أذكر أننا عندما تجمعنا في تظاهرة في مطار القاهرة اقترب مني أحد لواءات الشرطة وهمس في أذني: «قل لحسن نصر الله إن مصر كلها معه».

بعد ذلك بأسابيع أخرى كان لقاؤنا الثالث عندما لبى الرئيس بشار طلبي بإجراء حديث حول «حرب تموز» لتلفزيون دبي، وتطرقت إلى الموضوعين الحساسين لديه: لماذا لم يطلق الجيش السوري طلقة واحدة في الجولان؟ ولماذا لا يفرج عن المعتقلين السياسيين؟ ولم تكن إجاباته شافية.. عندما تحدث عن الجولان مثلاً قال إن المقاومة هناك «قرار شعبي، ومن غير المنطقي أن تقول دولة إنها ستذهب إلى المقاومة؛ لأن الشعب يتحرك للمقاومة بمعزل عن دولته عندما يقرر هذا الشيء»، أي أن الشعب هو المسؤول!

وقلت له يومها أيضاً إن «أول حق للناس في وطنهم أن يتكلموا بحرية»، وعدت لأذكِّر أن «جماعة مثل جماعة منتدى الأتاسي أو مثل الأعضاء في الاتحاد الاشتراكي وآخرين غيرهم قد يكونون أكثر ولاءً لبلدهم وهم في المعتقل، من بعض الذين خارج السجون»، ولكنه رد بـ«الكليشيه» التقليدية: «لا نريد الحريات التي تستغل من الخارج.. نريد حريات ضمن إطار الوطن!».

تعاطف مكتوم

عندما اشتعلت الثورة في سورية بعد مصر تعاطفتُ مع الثوار مثلما تعاطف معظم المصريين الذين هبوا ضد الاستبداد والفساد في بلدهم، ولكنني لم أعلن ذلك صراحة في البداية، وتفاقمت الأمور على نحو ما نعرف، وامتدت الثورة إلى مناطق أوسع.

وقتها هاجم أعوان بشار رسام الكاريكاتير المعارض الشهير علي فرزات في ساحة الأمويين وهو عائد إلى بيته فجراً وأوسعوه ضرباً على يديه وأصابعه، فنقل إلى المستشفى مصاباً بارتجاج في المخ «علشان تتلم ماترسمشي ضد أسيادك»، وكان إبراهيم قاشوش الذي غنى أغنية الثورة الشهيرة «ياللا ارحل يا بشار» قد ذُبح من حنجرته قبلها بأسابيع على أيدي الشبيحة أنفسهم.

عندها وصل بي الاستفزاز إلى مداه قلت في برنامجي الذي كنت أقدمه في قناة «التحرير» حينئذ إن أمثالي «اللي كانوا بيشوفوا أمل في بشار الأسد في وقت ما، لا يمكن بعد كل المجازر اللي حصلت يقفوا النهاردة جنب نظامه، مهما كنّا متأكدين إن قوى أجنبية بتستهدف هذا النظام.. اللي عارف إن فيه قوة أجنبية متقصداه ما يديلهاش فرصة، ما يفتحلهاش الباب».

وأيقنت أن بشار وصل في عناده إلى نقطة اللاعودة، فحسمت أمري وواصلت الوقوف إلى جانب المعارضة، ولكن الأمور تطورت على النحو الذي تطورت إليه فيما بعد، وهالني التدخل الفاضح للغرب الذي كان يهدف إلى إسقاط بشار منذ زمن.

زغلول الصحافي الفدائي

سعد زغلول فؤاد لم يكن صحافياً فحسب، لكنه كان أيضا في طليعة الفدائيين في حقبة النضال من أجل الاستقلال في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، وكانت له صولات وجولات على امتداد الوطن العربي كله، حُكم عليه خلالها بالإعدام مرتين وأفلت من المشنقة، وقاتل إلى جانب الجزائريين أثناء ثورتهم، ورافق الفلسطينيين في كفاحهم سنوات، وظل على الدوام نقياً صافي النفس، لا يملك من الدنيا إلا ما يكاد يستره، حتى استراح من رحلته المضنية في الحياة.

كُلف سعد مع مصور الجريدة سركيس بالجيان بإعداد تحقيق صحافي حول انتخابات الاتحاد القومي، وبالفعل قدم التحقيق في اليوم التالي، إلا أنه أسهب كثيراً في التفاصيل حتى ان التحقيق تعدى الصفحة المخصصة له فاختصرت منه نحو فقرتين عند النشر.

جاء سعد في المساء إلى مقر الجريدة في حي «المهاجرين» على حافة جبل قاسيون في دمشق، وكان مكتبي في قاعة كبيرة أجلس في جانب منها في حين يجلس في الجانب الآخر إميل شويري مدير التحرير.

وما ان أبلغت سعد بأنني قمت بالاختصار حتى ثار، كان يعتقد أن إميل هو الذي حذف ما حذف لأنه بعثي، ولأن التحقيق الصحافي شهد بنزاهة التصويت والفرز الذي أشرف عليه السراج عدو البعث، لم يصدق سعد أنني الذي قمت باختصار التحقيق، وفجأة قفز إلى الجانب الآخر من الغرفة ليبدأ بينه وبين إميل تلاسن حاد، انتهى بأن التقط سعد مطفأة السجائر من على مكتب إميل وقذفه بها في وجهه. كان هذا آخر أيام سعد في الجريدة.

حرم مبارك

عدت إلى دمشق بعد نحو عام؛ حيث كنت موفداً من تلفزيون القاهرة لمدة أسبوع أقرأ فيه نشرات الأخبار في تلفزيون دمشق، وكان زملاؤنا السوريون يأتون هم الآخرون إلى القاهرة بين وقت وآخر تنفيذاً لبرنامج التبادل بين المحطتين.

أصبح لي هناك أصدقاء سوريون لا حصر لهم، وأذكر طلال الزين، وهو واحد من أكبر ملاك ناقلات الغاز في العالم، الذي التقيته في اليونان عام 2003 عندما أقامت السفارة المصرية حفل استقبال لسوزان مبارك أثناء زيارتها لأثينا، وكان الحفل في واقع الأمر لجمع التبرعات للمشروعات الخيرية التي ترعاها حرم الرئيس السابق ولمكتبة الإسكندرية أيضاً، وكان الزين مدعواً فتبرع بشيك بمليون دولار، ولكنه جاءني بعدها إلى الفندق مندهشاً من أن الشيك أُعيد له حتى يعيد كتابته باسم سوزان مبارك!