من بين ضحايا الانهيار المذهولين – العمّال المصروفين من الخدمة، والشركات التي تمت تصفيتها والدول الفقيرة – كانت هناك لبعض الوقت، سمعة الأنموذج الاقتصادي الليبرالي في بريطانيا.

Ad

النمو المدفوع بالخدمات المالية والنزعة الاستهلاكية، وعدم الاكتراث بجميع الصناعات، باستثناء أكثر الصناعات الرائدة، وقوة عاملة تعول على مرونتها بدلاً من إنتاجيتها – هذه السمات تبدو حميدة بما فيه الكفاية خلال سنوات الطفرة، عندما كانت الديمقراطية الاجتماعية في أوروبا هي النظام الذي يتعين عليه إثبات فكرة معينة. لكن خلال أكثر من عام بقليل، وهو الوقت الذي استغرقه اقتصاد بريطانيا ليتقلص بنسبة 7 في المئة، وأن يصل عجز الميزانية إلى 11 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، اختفى البريق نوعاً ما.

ومنذ ذلك الوقت تنافس السياسيون في بريطانيا على رسم طريق لأنموذج هو أقرب إلى الأنموذج الألماني. فعندما تولت حكومة الائتلاف التي يقودها حزب المحافظين في 2010، وعدت "بإعادة توازن" الاقتصاد من خلال فرض قيود على القطاع المصرفي، ومناطق صناعية وتجارية لإنعاش الأقاليم، ومشاريع بنية تحتية كبيرة مثل السكة الحديدية عالية السرعة. وذهبت المعارضة العمالية، بقيادة إد ميليباند، أبعد من ذلك، من خلال تصوّر اقتصاد من نوع مختلف تماماً، مع ليبرالية طليقة تفسح المجال لنوع أشبه بدولة تهيمن عليها الشركات.

رأسمالية الألمان

وإذا كان بإمكان الأحداث الاقتصادية إيجاد إجماع على الرأي بين عشية وضحاها لصالح رأسمالية الألمان، عندها تستطيع إيقاف هذا الإجماع بالسرعة نفسها. إن الاقتصاد البريطاني يتعافى بقوة لم يتنبأ بها قبل عام من الآن سوى عدد قليل خارج مديري صناديق التحوّط الأكثر فطنة. ويكاد يكون من المؤكد أن تصبح الأرباع الثلاثة المتتالية من النمو أربعة عندما يتم الإعلان عن الأرقام النهائية الأسبوع المقبل. ويوم الأربعاء الماضي كُشف النقاب عن أن معدل البطالة الذي لم يصل أبداً إلى الذروة التي كان يخشاها الناس، انخفض بمعدل 167 ألف شخص في الربع الأخير. والمستوى العام يتجه نحو 7 في المئة، وهو المؤشر الذي اعتاد بنك إنكلترا القول إنه سينظر عنده في زيادة أسعار الفائدة. أما الآن فهو غير متأكد تماماً.

وهناك التحوّل الفكري لعناصر داخل صندوق النقد الدولي. ففي العام الماضي اتهم أوليفييه بلانشار، كبير الاقتصاديين في الصندوق، لندن بأنها "تلعب بالنار" بمثابرتها على تصويب ودمج الأوضاع المالية العامة في اقتصاد راكد. وفي الأسبوع الماضي أجرى الصندوق تحديثا لتوقعاته بشأن النمو في بريطانيا بزيادة أكثر مما فعل لأي اقتصاد أوروبي آخر كبير.

فجأة، بدت علل الأنموذج البريطاني بصورة متزايدة كأنها مزايا. وتعمل قوانين العمل المرنة على منح الشركات السلطة للقيام بكافة عمليات التوظيف التي انعكست في البيانات الأخيرة. وغالباً ما يتم تجاهل فكرة أن الإصلاحات من جانب العرض، التي تجري بإصرار من ألمانيا في أقل الاقتصادات تنافسية في منطقة اليورو، قد اكتملت في بريطانيا منذ جيل. وما كان في نظر أوروبا ليبرالية وحشية هو الآن منطق سليم لا مفر منه لأي بلد يطمح إلى الازدهار.

رؤى ملحمية

لكن السبب الذي لأجله ينبغي على السياسيين تخفيف الرؤى الملحمية لتبديل أنموذج بآخر ليس هو أن الانتعاش أثبت بطريقة أو بأخرى أن النظام البريطاني مثالي بالحال التي هي عليها. فهو ليس كذلك. السبب بالأحرى أن الحديث عن هذا النوع من التغيير أسهل بكثير من تنفيذه عملياً، ونادراً ما يحدث بتحريض من الحكومات. فجميع الأحزاب السياسية تعمل بطريقة روتينية على "القيام بالأشياء مرة أخرى" وإحداث ثورة في التعليم التقني. وبعد قراءة كتاب ويل هاتون النقدي عن الاقتصاد البريطاني بعنوان "الدولة التي نحن فيها"، سنحت فرصة جيدة لحزب العمال للحديث عن "رأسمالية أصحاب المصالح" على الطريقة اليابانية في منتصف التسعينيات من القرن الماضي. لكن لم تتمكن تطلعاته من البقاء على قيد الحياة بعد أول اتصال مع واقع الحكم.

وحين نحكم بالنظر إلى العفوية التي يتسم بها بعض الحديث عن محاكاة الأنظمة الاقتصادية الأجنبية، هناك صف من الروافع في مكان ما في وزارة المالية يشار إليه بأوصاف مثل "الأنجلو ـ ساكسونية"، و"دول الشمال"، و"ألمانيا"، و"شرق آسيا"، وما إلى ذلك، وهي لا تزيد على كونها مسألة تفضيل أيديولوجي حول أي هذه الروافع ينبغي سحبها. إن الحقيقة الفوضوية هي أن الخصوصية الاقتصادية لبريطانيا، إذا لم تكن متأصلة، فهي بالتأكيد تعبير عن تاريخها، وثقافتها، وظروفها الخاصة. إنها تعتمد على المسار، ومن الصعب تغييره بأي شيء مؤقت كالسياسة العامة. ويكمُن النضج السياسي في الاعتراف بأن الخصوصيات البريطانية تكمن في الخدمات، خاصة المصرفية، وبعض زوايا الصناعة المتطورة. وميزاتها التنافسية هي الانفتاح، وسهولة ممارسة الأعمال، وجامعات ذات مستوى عالمي، واللغة الإنكليزية، وعدم وجود نزوات وزارية – وهذا أعتبره تحذيراً للسياسيين المتغطرسين والفضوليين بشكل متزايد في ويستمنستر.

الانتعاش البريطاني

بطبيعة الحال يحمل هذا الأنموذج في طياته مشكلات، لكن كذلك الأمر بالنسبة لجميع النماذج الأخرى. مثلاً، فشل ألمانيا في تطوير قطاع الخدمات فيها يبدو غير مؤذٍ الآن، عندما تقوم الصين وغيرها من الاقتصادات الهائجة بشراء السيارات وقطع الآلات. لكن في الوقت الذي يتحول فيه الطلب من هذه البلدان إلى الخبرة المالية، والاستشارات الإدارية، والتأمين، وغيرها من الخدمات، قد تبدو الخصوصية الصناعية كأنها عائق. بالتالي جميع النماذج تشتمل على مقايضات.

والمنتقدون محقون في الاختلاف حول الشكل الدقيق للانتعاش البريطاني الذي يأتي معظمه من القطاعات الجاهزة دائماً، وهي الاستهلاك والعقارات والخدمات. وهذا يجعل عملية إعادة التوازن هزؤاً، فهي اسم مجرد نفضل أن يتكرم علينا الوزراء بالإقلال من استخدامه دائماً. ولاتزال الصادرات والاستثمار، وهما المساران اللذان كانت الحكومة تفضلهما، يخفقان في إثارة الإعجاب. لكن الحمق كان في المبالغة في الوعود ابتداء. وهناك مؤشرات إلى أن ميليباند لم يتعلم أي درس من كل ذلك. ولديه هو والمتحدثون الآخرون عن العمال عادة سيئة في التصريح والتأكيد على أن بريطانيا بحاجة إلى وظائف تعطي رواتب أفضل، واقتصاد متنوع، ووضع أقل هيمنة بالنسبة إلى لندن، والمزيد من الشركات ذات المستوى العالمي، وكأن هذه الأمور لم تخطر على بال أحد من قبل. ومن غير الواضح بالنسبة لي ما هو الأمر الذي يجعل هذه النوايا الحسنة تنجح في الوقت الذي أخفقت فيه كثير غيرها من قبل.

إذا كان هناك درس مستفاد من ألمانيا، التي هي الآن بطلة كأس العالم في النماذج الاقتصادية مثلما هي البطلة في الشيء الحقيقي هذا العام، فهو أن تقبل بالأساسيات في نظامك الاقتصادي وأن تُدخِل التعديلات البرجماتية على الهامش. قبل عقد، وبفضل النمو المنخفض، لم تكن بريطانيا تتمتع بهذه السمعة المتميزة. وبدلاً من إطلاق ثورة في غير محلها، أدخلت الحكومة إصلاحات هارتز من أجل تخفيف الجمود في سوق العمل المثقلة بالقوانين التنظيمية وما إلى ذلك من عوامل جمود أخرى. كان هذا التغيير صعباً، لكنه كان فعالاً. وفي الوقت الذي تتعافى فيه بريطانيا، لا يجدر بها أن تعيد اختراع عجلة أخذت أخيراً تتدحرج على الطريق من جديد.

* (فايننشال تايمز)