حين كتبت العام الفائت عمودين متتاليين عن مهرجان روسيني، الذي دُعيت إليه في مدينة بَزارو الإيطالية، شاءت إحدى الصديقات وهي معنية بالموسيقى، وتُحسن العربية أن تترجم المقالين إلى الإيطالية وترسلهما إلى إدارة المهرجان. كانت الإجابة اغتباطاً بهذا الاحتفاء الموسيقي الذي يتخفّى في حروف عربية طالما بدت غريبة على حقل الموسيقى الكلاسيكية. ولقد ورد في الإجابة الآتي: "نحن سعداء أن السيد فوزي كريم حضر مهرجاننا، وقد كانت زيارته بالنسبة لنا تعني انفتاحنا على العالم العربي، والذي، كما تعلمين جيداً، لا يعتني بشكل واسع بالموسيقى الغربية. لدينا في أكاديمية روسّيني مغنّون من الصين، من اليابان، من كوريا ومن جنوب إفريقيا، لكن ليس لدينا مغنون عرب مطلقاً. ربما ستتغير الأمور بفعل جولات مسارحنا في دول الخليج، وربما مقالتا فوزي كريم ستكونان تنبيهاً قيماً، وذلك ما نأمل".

Ad

الحقيقة لا وجود لمغنين عرب في نشاطات العروض الغربية في كل مكان، لا في مهرجان روسّيني وحده. والذين أسهموا في النشاط الموسيقي الكلاسيكي، مهما كان نوعه، فضلوا الانغمار في غربية النشاط، وقطعوا الوصل مع عالمهم العربي. ولمن يعرف الحقيقة لا يوجّه إليهم اللوم.

قبل بضعة أيام كنت مدعوا لنشاط موسيقي في سفارة "أستونيا". النشاط يتضمن عرضاً لإصدار موسيقي بعنوان "رقصة الحياة - قُدّاس تالِنْ" (دار Wabner)، للموسيقية البريطانية (من أصل بولندي) روكسانّا بانوفْنِك (من مواليد 1968)، ابنة المؤلف وقائد الأوركسترا أندريه بانوفنِك. و"القداس" الذي تحول من شعيرة صلاة في الكنيسة إلى فن في التأليف الموسيقي الكورالي، عادة ما يتألف من أجزاء سبعة، ينشدها الكورس مع مغنين منفردين. ولقد قدم معظم مؤلفي الموسيقى الكلاسيكية، من مرحلة الموسيقى المبكرة والباروك... حتى اليوم، إسهامهم فيه. ولعله يقابل، من حيث قواه الروحية والتأملية، الأعمالَ الكبيرة التي وُضعت لآلة الأورغن. وقداس روكسانّا ليس تأملاً دينياً، بل دنيوياً إن صح التعبير. فقد وضعته المؤلفة بتكليف من دولة أستونيا احتفاءً بعاصمتها "تالِن"، التي عُيّنت عاصمة أوروبا للثقافة لعام 2011. والمؤلفة لا تُحسن اللغة الأستونية، لكنها تُحسن اللغة الموسيقية التي يعيها ويحسها كل حي.

العمل الذي سمعته يتناوب فيه عنصران: قُدّاسي من النص التقليدي المعهود، والآخر يعتمد 19 نصاً شعرياً من شاعرين آستونييْن معروفيْن. إنه احتفاء بالإنسان، بالحياة والموروث الوطني لهذه المدينة العريقة. المؤلفة ليست أستونية بل موسيقية، والتكليف الموسيقي لا يحتاج هوية وطنية، فهو قادر على تجاوز الحدود القومية. أي إن بغداد التي كانت عاصمة للثقافة العربية العام الفائت، كان يمكن أن يحتفي بها موسيقي عربي، هندي، صيني، بريطاني، مثل روكسانّا، في أعمال موسيقية ضخمة تُعزف في كل بقاع العالم. بدل المهرجانات الوظيفية البائسة والمكلفة، الملحقة بالدوائر الثقافية، والتي تتبخر كالدخان الذي يُرمد العيون، بعد ساعة من تقديمها.

إن روكسانّا سبق أن قدمت عملاً صدر عن دار Warner ذاتها باسم "الامتثال للحب"، يعكس هذا الاحتضان للإنسان، عبر هاجس الحب، مُمثلاً في أديانه العديدة. ولقد انتخبت نصاً شعرياً من جلال الدين الرومي ممثلاً للإسلام:

الحب هو الأحد الذي يسود كلَّ شيء

وأنا المَسودُ به حدّ التمام

آه أيتها الريح الغاضبة، ما أنا غير قشةٍ أمامك

فكيف لي أن أعرف متى تعصفين بي ثانيةً؟

إن كل من يدّعي حلفاً مع القدر كاذبٌ أو أحمق،

فما نحن جميعاً إلا قشة في عاصفة.

روكسانّا، التي أكملت دراستها في الأكاديمية الملكية للموسيقى، غزيرة التأليف في كل الحقول الموسيقية: أوبرا، باليه، أعمال كورال، موسيقى غرفة، موسيقى أفلام وتلفزيون. ليست محافظة في الأسلوب، بل حريصة على الإرث، لا إرث وطنها وحده. وهي مقبلة على الحياة الموسيقية العالمية بسعة أفق موسيقي حقيقية.