إن العالم المتقدم يخرج الآن وببطء من الركود العظيم، لكن السؤال يظل قائماً: بأي سرعة قد ينطلق التعافي، وإلى أي مدى قد يذهب؟ كان أحد أكبر مصادر التشاؤم يتلخص في فكرة مفادها أن فرص الاستثمار بدأت تنفد، وأن هذه كانت الحال منذ ما قبل انهيار 2008. لكن هل هذا صحيح حقا؟

Ad

كانت ثورة الإنترنت آخر موجة كبرى من موجات الإبداع، والتي بدأت منتجاتها تنتشر في تسعينيات القرن العشرين. وفي أعقاب انهيار فقاعة الإنترنت في أوائل العقد الماضي، ساعدت المضاربة في العقارات والأصول المالية -بفضل الأموال الرخيصة- في الإبقاء على الاقتصادات الغربية على مسار صاعد. والواقع أن الركود في مرحلة ما بعد عام 2008 كشف عن اختلال الطفرة السابقة؛ وتعكس رداءة التعافي أيضاً رداءة التوقعات السابقة، إذا أمعنا النظر. ويكمن الخطر الآن في أن يكون ارتفاع أسعار الأصول الذي يتغذى على الدين سبباً في إدامة دورة الرواج والكساد.

أعاد الخبير الاقتصادي لاري سامرز تقديم مصطلح "الكساد المادي" لوصف ما ينتظرنا. في مؤتمر صندوق النقد الدولي الأخير زعم سامرز أن متوسط العائد المحتمل على الاستثمارات الجديدة في الولايات المتحدة هبط بحلول منتصف العقد الماضي إلى ما دون أي خفض ممكن لأسعار الفائدة الرئيسية التي يقرها مجلس الاحتياط الفدرالي (البنك المركزي) الأميركي القياسية.

ويظل هذا صحيحاً حتى اليوم. فربما أصبحنا الآن في فخ السيولة الدائمة، حيث لا يمكن أن تهبط أسعار الفائدة الاسمية إلى ما دون الصفر، لكن معدل العائد المتوقع على الاستثمار يظل سلبياً. وقد تؤدي السياسات النقدية غير التقليدية مثل "التيسير الكمي" إلى نشوء جيل جديد من فقاعات الأصول، لكن المشكلة الأساسية -العائدات السلبية على الاستثمار الجديد- لن يكون حلها متاحاً عندما يأتي الانهيار التالي.

وبالتالي فإن المشكلة تكمن في آفاق الاستثمار الهزيلة. لكن لماذا؟ في ثلاثينيات القرن العشرين، زعم الخبير الاقتصادي ألفين هانسن أن فرص الاستثمار الجديدة في البلدان الغنية بالفعل كانت في طريقها إلى النضوب. وكان نمو الاستثمار يعتمد على النمو السكاني والإبداع التكنولوجي والتوسع غربا.

ومع إغلاق الحدود والركود السكاني، فإن النمو سوف يعتمد على الإبداع؛ لكن الإبداع في المستقبل سوف يتطلب مدخلات أقل من رأس المال والعمالة مقارنة بالماضي. وبعبارة أخرى، كان من المحتم أن تنخفض العائدات على رأس المال بعد أن أصبح أكثر وفرة نسبة إلى عدد السكان. وفي هذا الموقف فإن الحفاظ على التشغيل الكامل للعمالة قد لا يتسنى إلا من خلال إدامة العجز المالي.

بيد أن جون ماينارد كينز عرض وجهة نظر مختلفة. ففي عام 1945، كتب إلى تي. إس. إليوت: "إن سياسة التشغيل الكامل للعمالة عن طريق الاستثمار لا تشكل سوى تطبيق خاص لنظرة فكرية. ويمكنك أن تحقق نفس النتيجة بنفس الكفاءة، من خلال زيادة الاستهلاك أو العمل لوقت أقل. وأنا شخصياً أنظر إلى سياسة الاستثمار باعتبارها شكلاً من أشكال الإسعافات الأولية... العمل الأقل هو الحل النهائي".

ثم أتى الأداء الاستثماري القوي في البلدان المتقدمة بعد الحرب ليبدد المخاوف من الركود المادي. لكن هذا حدث بعد حرب عالمية ساعدت في خلق طلب مكبوت هائل على المعدات الجديدة والبنية الأساسية للنقل والأجهزة المنزلية، فضلا عن المجمع الصناعي العسكري الذي سلح الغرب خلال الحرب الباردة.

وربما بدأ المعدل الحقيقي للعائد على رأس المال في الانخفاض بحلول أوائل سبعينيات القرن العشرين؛ فمن المؤكد أن نمو الإنتاجية تباطأ منذ ذلك الوقت. وبوسعنا أن ننظر أيضاً إلى بعض التغيرات الحاسمة التي طرأت على الاقتصاد السياسي للرأسمالية الغربية في الثمانينيات في هذا الضوء: صعود أيديولوجية الليبراليين الجدد، واتساع فجوة التفاوت في الثروات والدخول، وزيادة البطالة البنيوية، ونمو الخدمات المالية، والعولمة، واختراع تهديدات ما بعد الحرب الباردة للحفاظ على الإنفاق العسكري، وما إلى ذلك.

والسؤال المطروح اليوم هو ما إذا كانت طفرة جديدة من الاستثمار قد تأتي لإنقاذنا. يشير المتفائلون إلى ثورة طاقة الغاز الصخري في الولايات المتحدة.

والواقع ان "معهد ماكينزي العالمي" وصف طاقة الغاز الصخري باعتبارها تطوراً "مغيراً لقواعد اللعبة" بالنسبة للاقتصاد العالمي، وتشير تقديراته إلى أنها قد تزيد الناتج المحلي الإجمالي الأميركي بنحو 4% (690 مليار دولار) سنوياً، وتضيف 1.7 مليون وظيفة دائمة إلى سوق العمل بحلول عام 2020. وبداية من عام 2007 حتى عام 2012، حقق إنتاج الغاز الصخري في أميركا الشمالية نمواً بمتوسط سنوي تجاوز 50%. ونتيجة لهذا ارتفعت حصة الغاز الصخري في إجمالي إنتاج الغاز في أميركا من 5% في عام 2007 إلى 36% في عام 2012. ومع انخفاض حصة الواردات في استهلاك الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة من 16.5% في عام 2007 إلى 11% في عام 2010، أصبحت أميركا على طريق تحقيق الاكتفاء الذاتي من الطاقة.

على نحو مماثل، خلص تقرير صادر في سبتمبر 2013 عن "مؤسسة خدمات معالجة المعلومات" إلى أن الصناعات الوسيطة مثل النقل والصناعات النهائية كالصناعات التحويلية والمواد الكيماوية تتلقى أيضاً تحفيزات ضخمة. ونتيجة لطفرة الطاقة الصخرية، "فسوف يتم استثمار أكثر من 216 مليار دولار في المجمل في صناعات النفط والغاز الوسيطة والنهائية" من عام 2012 حتى عام 2025. والواقع أن ما يقرب من 380 ألف وظيفة من أصل 2.1 مليون وظيفة أتاحتها الصناعات المرتبطة بالغاز الصخري في الولايات المتحدة في عام 2012.

وبعيدا عن هذا فإن التأثير الأكثر دراماتيكية الذي خلفته ثورة الغاز والنفط الصخريين على الاقتصاد كان انخفاض أسعار الطاقة. ففي الولايات المتحدة انخفض سعر الغاز الطبيعي من 13 دولاراً لكل مليون وحدة حرارية بريطانية في عام 2008 إلى 4 دولارات الآن. وتشير تقديرات مؤسسة خدمات معالجة المعلومات إلى أن التطورات التي شهدتها صناعة الطاقة الصخرية أدت إلى زيادة دخل الأسر الحقيقي القابل للتصرف (القدرة الشرائية) بأكثر من 1200 دولار في عام 2012. وبالتالي فإن ثورة الطاقة الصخرية تمثل حافزاً ضخماً لأميركا، من حيث الاستثمار والصادرات وخفض تكاليف الطاقة.

الحق أنني لست في موقف يسمح لي بالحكم على التأثير الكمي الذي تخلفه الطاقة الصخرية على اقتصاد الولايات المتحدة، وبالتالي على بقية العالم، أو التعليق على العواقب الجيوسياسية المترتبة عليها أو التأثير النهائي على الانبعاثات الكربونية. ولكن يبدو لي أن دعاة الكساد المادي المعاصرين من أمثال سامرز وبول كروغمان لابد أن يضعوا في حسبانهم على الأقل ثورة الطاقة الصخرية.

* روبرت سكيدلسكي، عضو مجلس اللوردات البريطاني، وأستاذ الاقتصاد السياسي الفخري بجامعة وارويك.

"بروجيكت سنديكيت" بالاتفاق مع "الجريدة"