شآرميدا روسّيني على الأدرياتِك (1)
لو أطْلعْتُ أولادي على صورتي وأنا أطلُّ برأسي الأشيب من تحت الخيمة الملونة الصغيرة التي خصّني بها أصدقاء، في مخيم على الأدرياتِك في مدينة "سَنيغاليا"، لقالوا إنها صورة كمبيوتر مركّبة. ولكني قضيت ليلتين داخلها، صغيرة لا تكاد تكفي كياني من الرأس إلى القدم، ثم جفّلني القطارُ، الذي يقطع المكان كلَّ ربع ساعة في النهار والليل، عن مكاني. بحثنا عن ملاذ في مخيم آخر في "ميزانو"، ولكن لا شاغر. فالإيطاليون يهجرون بيوتهم ومدنهم في شهر أغسطس، ويتجهون أنصافَ عراة إلى البحر. كان لي موعد مع "مهرجان أوبرا روسّيني" في "بَيْزرو"، التي على الأدرياتِك أيضاً (أنشأها الرومان عام 184 قبل الميلاد). اتجهتُ إليها دون خيمةٍ طبعاً، فدعوة المهرجان وفّرتْ لي فندقاً، وتذاكر لعروض ثلاثة من أوبرا روسّيني، اخترت فيها أن أرى "آرميدا"، "حلاق أشبيليا" و"أورليانو في بالميرا"، على التوالي.
سبق أن تحدثت عن هذا المهرجان العام الماضي، ولكن لهذه الدعوة الثانية مذاق خاص. مذاق الألفة التي أحاطتني بها التجربة السابقة مع دار الأوبرا الصغيرة (بنيت عام 1637، تسع 850 مشاهداً، وقدمت أول عرض لموسيقى روسّيني عام1818، وأخذت اسمه حتى اليوم عام 1854)، وكذلك مدينة "بيْزرو"، تتزاحم فيها وجوه رواد هذا المهرجان من كل أنحاء العالم، شرقاً وغرباً، باستثناء الوجه العربي طبعاً. وجوه تقول لك ان هذا المهرجان يستحق جهدَ المجيء، فهل أعمق مذاقاً من أن تسمع روّسيني من "بيْزرو"، المدينة التي أنجبته وأنشأته؟"مهرجان أوبرا روسّيني" بدأ حياته الناشطة عام 1980، معنياً بتقديم نتاجَ روسّيني كاملاً دون نقصان. فالعالم كان يعرفه عبر حفنة من الأعمال الشهيرة التي لا تتجاوز أصابع اليد: حلاق أشبيلية، سيندرلا، موسى وفرعون ووليم تّل. في حين كان الإهمال يغمر أكثر من ثلاثين أوبرا بالغة الغنى في الألحان التي يؤديها الإيطالي بيسر. "مهرجان بيْزرو" قام بهذه المهمة بصورة رائعة، حتى استحق دعم البرلمان الإيطالي منذ عام 1993. والآن صار محب روسّيني يُقبل من كل مكان لمشاهدة عروض لأعمال له لم تخطر على بال. دار الأوبرا تقع في شمال الشارع الحجري الذي يتوسط المدينة القديمة. الفندق الذي أُقيم فيه يقع في جنوبه، بمحاذاة البحر. في الساعة الثامنة يبدأ عرض "آرميدا" (1817)، المنتزعة من ملحمة الشاعر "تاسو"(44 ـ 1595) الشعرية "تحرير أورشَليم" (1580). ذهبتُ وفي رأسي أكثر من وجه لهذه الحكاية التي كانت في الأصل تجمع بين آرميدا ورينالدو، سبق أن اطلعتُ عليه عبر أوبرا لهاندل، هايدن، غلوك، ودفورجاك. ولكن "آرميدا" روسّيني ظلّت الأوفر حظاً من الشهرة. بالرغم من أن الشاعر تاسو كتب ملحمته من وحي إيمانه الديني بحربه الصليبية الأولى، إلا أنه في نصه الشعري كان يفضل غلبةَ مخيلته الشعرية على إيمانه الديني. فجعل من أرميدا ساحرة دمشقية جاءت، بحجة المساعدة، تُفسد قوة الجيش الأوروبي في حصاره لبيت المقدس. أغوت أبرز قواده "رينالدو" بفعل حبٍّ سرعان ما أصبح واقعاً حقيقياً بينهما. إلا أن رينالدو سرعان ما أُعيد إلى رشده تاركاً آرميدا في مفترق خيار بين الحب وبين الرغبة بالانتقام. أوبرا روسيني فضلت خيارها الانتقامي الحارق، الذي يليق موسيقياً بذروة الموسيقى الختامية. هناك أكثر من أغنية منفردة، ثنائية وثلاثية جميلة في العمل. وأكثر من قطعة موسيقية، تتوسطها موسيقى الباليه الطويلة في الفصل الثاني. إلا أن عرض الباليه ذاته جاء غير موفق، وكأنه كولاج غير مناسب للأحداث التي تحيطه. عُدة المحاربين وألبستهم أعطتهم بلمعانها الناصع صورة الدمى البلاستيكية، ورينالدو لم يكن بحجم دوره البطولي. وحدها المغنية الاسبانية "كارمن روميو" كانت شرارة لا تُطفأ في دور "آرميدا". بعد أن خرجت من المبنى الرائع " آدرياتِك آرينا" الضخم، التي يليق بالعرض الضخم، رجعت إلى غرفة الفندق أقرأ كتاب "آرمينا". والمهرجان يُصدر مع كل أوبرا كتاباً مُرفقاً، يضم مقالات غنية عدة، وبلغات عدة.