الاعتراف بأن الفرجة على الأفلام طقس جماعي لا يمنع القول بأن بعض الأفلام يحتاج إلى خلوة، بمعنى أن المرء لا يحتاج معها إلى صحبة تُشاركه المشاهدة، وإنما يحتاج إلى أن يعيش بمفرده مع الأحداث والشخصيات، ليستشعر تقلباتها ويتعاطف مع مشاعرها، من دون أن يخشى أن يضبطه أحد متلبساً بفعل البكاء أو الفرح!

Ad

ينطبق هذا على فيلم «فيلا 69»، الذي أخرجته آيتن أمين عن سيناريو شارك في كتابته محمد الحاج ومحمود عزت؛ ويحكي الساعات الأخيرة في حياة المهندس المعماري «حسين» (خالد أبو النجا) الذي أصيب بمرض عضال دفعه إلى إدارة مكتبه الاستشاري من الفيلا التي تملكها عائلته، واختارها مقراً لعزلته. لكن شيئاً لم يحل دونه، والتشبث بالقواعد الدقيقة التي وضعها لحياته، والنظام الصارم الذي حدده داخل بيته (لا رد على الهواتف ولا تدخين للسجائر ولا قطعة ديكور أو أكسسوار تتحرك من مكانها)، والسخرية التي اختارها نهجاً له (يُبدي دهشته لأن ثمة من يختار الموت في العاشرة صباحاً، ويتسبب في إزعاج من حوله)، ومع قسوته وعنفه وعصبيته يبدو شديد العطف والحنو في تعامله مع الممرضة «هناء» (هبة يسري) ويُسهم في التعجيل بزواجها الذي تأخر كثيراً. كذلك يقدم نفحة من المال للرجل الذي يدير الفيلا، فور علمه بمرض والده، ويخصص جزءاً من وقته لإطعام القطط الضالة، وعندما يُدرك أن حالته المرضية ميئوس منها يتنازل عن نصيبه في مكتبه لمساعده المخلص، ويُنهي علاقته بعشيقته «سناء» (أروى) هرباً من شفقتها، ويستنكر تصرفات شقيقته «نادرة» (لبلبة) التي دأبت على بيع إرث والدهما، ويرفض انتقالها للعيش معه خشية أن تنتهك طقوسه الخاصة، لكنه لا يمنع نفسه من تقبيل يدها عرفاناً بوقفتها إلى جواره في محنته، ويقسو على حفيدها «سيف» (عمر الغندور)، غير أنه يُطالبه بأن يناديه باسمه مجرداً، ويفتح له قلبه بعد أن ينجح في إزالة الحواجز بينهما، وبصديقته «آية» (سالي عابد) وفرقته الموسيقية، ويُلقن الشباب درساً في كيفية الإحساس بالكلمة وتذوق الموسيقى، وفي تأكيد على ثقته في الجيل الجديد، يقرر الخروج من عزلته. ويغادر «فيلا 69» في سيارة والده قديمة الطراز، بصحبة «سيف» و»آية» تاركاً للحفيد مسؤولية القيادة بكل ما في الاختيار من مغزى ورهان ورسالة.

نجحت آيتن أمين، والسيناريو، في رسم شخصية «حسين»، الذي ينطبق عليه القول الشائع «كم من قسوة تحمل في باطنها رحمة»، وحالفها التوفيق في حشد كثير من التفاصيل المدهشة، والعناصر الفنية الجمالية التي جعلت من الفيلم قطعة فنية أخاذة تفيض بالمشاعر المرهفة، والأحاسيس العذبة التي تبث لدى المتابع شحنة من الشجن النبيل، والتعاطف الإنساني مع رجل يحتضر؛ فأوراق الشجر اليابسة التي تملأ الأرض توحي بالعمر الذي يذبل كأوراق الخريف. أما تداخل الأعشاب الجافة مع تلك التي تنمو حديثاً فيحمل دلالة على تجدد واستمرار الحياة، بينما يوحي الأثاث القديم، والراديو العتيق، والحقائب المتهالكة، والفرن المستهلك، والنوافذ التقليدية، واللوحات الكلاسيكية، وألوان الجدران المتهالكة القاحلة (ديكور شهيرة ناصف) بانتماء البطل إلى طبقة غابرة. وجاء اختيار أغنية «كان أجمل يوم» لمحمد عبد الوهاب، بتنويعاتها الموسيقية المتعددة (سمير نبيل) في السياق الذي يؤكد معنى الفيلم ورؤيته، فيما تُعمق الستارة المواربة أمام النافذة نصف المفتوحة شعور البطل بالعزلة، وتعكس توتر علاقته والعالم الخارجي الذي يتعامل معه من خلف ستار، بينما لعب التصوير والإضاءة (إدارة حسام شاهين) دوراً كبيراً في تكثيف المعنى الدرامي، سواء من خلال زيادة حدة الإضاءة لتصل إلى درجة السطوع «الميتافيزيقي»، أو توظيف اللونين البني والأزرق لتحقيق أثر نفسي؛ إذ من المعروف أن اللون الأزرق يبعث في النفس شعوراً بالبرودة والنقاء والاسترخاء والثقة والاكتئاب أيضاً، بينما يُجسِّد اللون البني الشعور بالانطواء والحساسية المفرطة والتحفظ والانكفاء على الذات والميل إلى التخطيط وحب الحياة المنظمة والانسحاب بعيداً عن العالم الواقعي... وكلها صفات انطبقت فعلاً على البطل «حسين» الذي جسده خالد أبو النجا بمصداقية رائعة وبراعة فائقة، ربما لأنه عاش الشخصية بكل أحاسيسه وجوانحه، والأمر نفسه ينطبق على الوجوه الجديدة التي أثرت الفيلم بمشاعر طازجة، وأحاسيس تلقائية صادقة.

فيلم «فيلا 69» أحد الأعمال الفنية القليلة التي تجعل المشاهد مشاركاً فاعلا بمشاعره وانفعالاته، مع ما يراه متجسداً على الشاشة، وليس متلقياً سلبياً كما جرت العادة، وذلك بفضل رهافة حس مخرجته الشابة، وقدرتها الكبيرة على الاحتفاظ بالتفاصيل التي يحتاج إليها العمل (مونتاج عماد ماهر) والحوار الرشيق الذي لا يخلو من سخرية محببة... ولأنها حدثتنا عن الموت بتفاؤل.