ما كان يجب أن تصل الأمور بين مصر وتركيا إلى تبادل "طرد" السفراء، وإلى هذه القطيعة غير المسبوقة إطلاقاً، والمفترض أن تكون هناك مبادرة عربية لرأب الصدع عندما كان في بداياته، وقبل أن يصل إلى هذا الشرخ الكبير المؤلم، فالبلدان يشكلان ركيزة رئيسية في هذه المنطقة، لاسيما أنها باتت تغلي بكل هذه المستجدات الخطيرة، وتواجه تحديات لم تواجهها لا في مرحلة الحرب الباردة ولا قبل ذلك.
إنه غير جائز أن تُترك الأمور لتصل إلى ما وصلت إليه، وكان ضرورياً جداً أن تتحرك الجامعة العربية، وأن تتحرك الدول التي بإمكانها التأثير على القيادة التركية والقيادة المصرية الجديدة، لوضع حدٍّ مبكر لهذا "الانزلاق" السياسي الذي ما كان يجب أن يصل إلى تبادل طرد السفراء، وإلى كل هذه القطيعة التي يتطلب التخلص منها جهوداً مضنية وربما سنوات طويلة. إن من حق النظام المصري الجديد أن "يعتب"، بل أن يغضب، من الطريقة التي تعامل بها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان مع الحركة التصحيحية التي قامت بها القوات المسلحة المصرية ضد "حكم" الإخوان المسلمين، فهذا من المفترض أنه شأن داخلي لا يجوز التدخل فيه لا من قبل الدول الشقيقة أو الصديقة، اللهم إلا إذا كان هذا التدخل من قبيل السعي إلى حل الإشكال، وإصلاح ذات البين، وتقريب وجهات النظر، ومساعدة الطرفين على تجاوز خلافاتهما، لتجنيب أرض الكنانة خطر التصدعات الداخلية، وخطر انتعاش الظاهرة الإرهابية التي عانى منها هذا البلد في سنوات سابقة الشيء الكثير. إن من المعروف أن ما قامت به القوات المسلحة المصرية، التي هي من يتحمل مسؤولية الحفاظ على السلم الاجتماعي في مصر، ومنع حزب سياسي من التغول وفرض إرادته و"أجنداته" الخاصة على الشعب المصري، الذي هو صاحب الثورة المصرية الأخيرة، بل وفرض سياسات التنظيم العالمي للإخوان المسلمين على دولة عانى شعبها سنوات طويلة غياب الديمقراطية وغياب التداول على السلطة. إن من المعروف أن هذا قد أخاف رجب طيب أردوغان، وربما معه الحق، من أن يُنعش هذا الذي قامت به القوات المسلحة المصرية ضد نظام الحزب الواحد وضد الحاكم المستبد غير العادل نزعة الانقلابات العسكرية لدى جنرالات الجيش التركي، الذين بقوا يتعاقبون على السلطة في تركيا منذ عشرينيات القرن الماضي، وإلى ما قبل نحو عشرة أعوام، عندما غير حزب العدالة والتنمية توجهات هذا البلد، وقلب نمط الحكم فيه رأساً على عقب، وأوصله إلى هذه الوضعية التي تجاوزت بالنسبة للكثير من الأمور أوضاع أكثر الديمقراطيات تجذراً في الدول الغربية. إنه لابد من تفهم مخاوف رجب طيب أردوغان هذه، لكن ما لا يمكن تفهمه هو أن يضع رئيس الوزراء التركي، الذي لايزال مستقبله أمامه كما يقال، سواء في بلده تركيا أو في هذه المنطقة والعالم الإسلامي بأسره، كل بيضه في "سلَّة" الإخوان المسلمين، وأن يراهن على تنظيمهم العالمي على حساب الشعب المصري الذي تربطه بالشعب التركي علاقات تاريخية... وهنا فإن المعروف أن الخلافات يجب ألا تفسد للود قضية، وأنه كان على الطرفين ألا يتصرفا تحت ضغط ثورات الغضب وضغط اللحظة الآنية، كما أنه كان على العرب ألا يبقوا مكتوفي الأيدي، و"يتفرجون" على تصدع العلاقات على هذا النحو بين دولتين من المفترض أنهما شقيقتان وأنهما تشكلان معاً ركيزة لأمن واستقرار هذه المنطقة التي تتعرض لما لم تتعرض له سابقاً ومنذ فترات طويلة.
أخر كلام
ما بين مصر وتركيا
29-11-2013