لماذا تمسّكت الولايات المتحدة بالمالكي وخسرت العراق؟ (1)

نشر في 08-07-2014 | 00:02
آخر تحديث 08-07-2014 | 00:02
لفهم سبب انهيار العراق، يجب أن نفهم رئيس الوزراء نوري المالكي ونكتشف ما جعل الولايات المتحدة تدعمه منذ عام 2006. هنا وجهة نظر علي خضري الواردة في «واشنطن بوست».
أعرف المالكي، أو أبو إسراء كما يناديه الأشخاص المقربون منه، منذ أكثر من عشر سنوات. سافرتُ معه في رحلات شملت ثلاث قارات. أعرف عائلته وأوساطه الداخلية. حين كان المالكي عضواً مغموراً في البرلمان، كنتُ من الأميركيين القلائل الذين تواصلوا معه في بغداد. في عام 2006، عرّفتُه على السفير الأميركي وأوصيتُ به كخيار واعد لمنصب رئيس الوزراء. في عام 2008، نظمتُ له رحلة الإخلاء الطبي لأنه كان مريضاً، ورافقته لتلقي العلاج في لندن وكنت أمضي 18 ساعة معه في اليوم في مستشفى ويلينغتون. في عام 2009، ضغطتُ على الأنظمة المالكة الإقليمية التي كانت تشكك في المالكي كي تدعم حكومته.

لكن بحلول عام 2010، بدأتُ أشجع نائب الرئيس الأميركي وكبار المسؤولين في البيت الأبيض على سحب دعمهم للمالكي. أدركتُ أنه سينشئ حكومة استبدادية وطائفية تبث الانقسام إذا بقي في السلطة، ما يؤدي إلى تمزيق البلد وتدمير المصالح الأميركية.

لكن تمسكت الولايات المتحدة بدعم المالكي. نتيجةً لذلك، ها نحن نواجه الآن هزيمة استراتيجية في العراق وفي الشرق الأوسط كله على الأرجح.

وُلد أبو إسراء في بلدة طويريج التي تقع خارج مدينة كربلاء العراقية المقدسة، وهو حفيد زعيم قبلي كان قد أسهم في إنهاء الحكم الاستعماري البريطاني خلال العشرينيات. نشأ في عائلة شيعية متديّنة وتربى على كره حكم الأقلية السنية في العراق، لا سيما حزب البعث العلماني لكن القمعي. انضم المالكي إلى حزب «الدعوة» الديني في شبابه لأنه كان يؤمن برسالته التي تقضي بإنشاء دولة شيعية في العراق بأي وسيلة ممكنة. بعد الاشتباكات بين البعثيين العلمانيين من سُنّة وشيعة ومسيحيين والجماعات الإسلامية الشيعية، بما في ذلك حزب «الدعوة»، حظرت حكومة صدام حسين الحركات المنافِسة واعتبرت أن الانتساب إليها جريمة عقوبتها الإعدام.

اتُّهم آلاف الأعضاء في حزب «الدعوة» بالتبعية لرجال الدين وضباط الاستخبارات الإيرانيين وتعرّضوا للاعتقال والتعذيب والإعدام. لم يعد بعض الجثث المشوّهة يوماً إلى عائلاته. كان بعض الأشخاص الذين قُتلوا من أقارب المالكي، وقد أثرّت هذه الحادثة في نفسية رئيس الوزراء المستقبلي.

خلال فترة ثلاثة عقود، تنقل المالكي بين إيران وسورية حيث نظم عمليات سرية ضد نظام صدام حسين، فأصبح في نهاية المطاف رئيس فرع حزب «الدعوة» العراقي في دمشق. وجد الحزب حامياً له في جمهورية إيران الإسلامية بقيادة آية الله روح الله الخميني. خلال الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينيات، حين استعمل العراق أسلحة كيماوية حصل عليها من الغرب، ردّت طهران عبر استعمال عملائها الشيعة مثل حزب «الدعوة» لمعاقبة مناصري حسين. بمساعدة إيران، قصف عناصر «الدعوة» السفارة العراقية في بيروت في عام 1981 في أحد أوائل الاعتداءات الانتحارية التي ينفذها الإسلام المتطرف. كذلك قصفوا السفارتين الأميركية والفرنسية في الكويت وخططوا لقتل الأمير. فشلت عشرات خطط الاغتيال ضد أعضاء بارزين من حكومة صدام حسين، بما في ذلك الدكتاتور نفسه، ما أدى إلى اعتقالات وعمليات إعدام جماعية.

خلال الأشهر المضطربة التي تلت الغزو الأميركي للعراق في عام 2003، عاد المالكي إلى بلده الأم. تولى منصب مستشار رئيس الوزراء المستقبلي إبراهيم الجعفري ثم أصبح عضواً في البرلمان وترأس اللجنة التي تدعم هيئة اجتثاث البعث (منظمة يدعمها الشيعة ضمناً باعتبارها وسيلة انتقامية ويدينها السُّنة علناً باعتبارها أداة قمعية).

تطوعتُ للخدمة في العراق بعد مشاهدة مأساة 11 سبتمبر من قاعة المؤتمرات الخاصة بحاكم تكساس. بما أنني ابن مهاجرَين عراقيين، أرسلني مكتب وزير الدفاع إلى بغداد لإنجاز مهمة خلال ثلاثة أشهر لكنها دامت فعلياً عشر سنوات. بما أنني كنتُ مساعداً خاصاً للسفير باتريك كينيدي وصِلة الوصل بين سلطة الائتلاف الموقتة ومجلس الحكم العراقي، وباعتباري أحد المسؤولين الأميركيين القلائل الذين يجيدون اللغة العربية، بات جميع القادة العراقيين يقصدونني في جميع المسائل تقريباً (أسلحة أميركية، سيارات، منازل، أو جوازات دخول «المنطقة الخضراء» التي يرتفع عليها الطلب).

بعد انتهاء الاحتلال الأميركي رسمياً في عام 2004، بقيتُ في بغداد لتسهيل المرحلة الانتقالية و»تطبيع» الوجود الأميركي الدبلوماسي، وكنت أتشارك الشاي والبسكويت في أغلب الأحيان مع أصدقائي العراقيين في البرلمان الانتقالي. كان المالكي أحد هؤلاء الأصدقاء. كان يسألني عن الخطط الأميركية للشرق الأوسط ويتملقني للحصول على عدد إضافي من جوازات دخول «المنطقة الخضراء». كانت تلك الأيام الأولى مرهِقة لكن ممتعة، فقد تعاون العراقيون والأميركيون لمساعدة البلد على النهوض من أنقاض عهد صدام حسين.

ثم وقعت الكارثة. خلال ولاية الجعفري القصيرة، تصاعد التوتر العرقي الطائفي على نحو كارثي. كانت جرائم صدام حسين لا تزال حية في ذاكرة القادة العراقيين الشيعة الجدد، فنسجوا مؤامرات انتقامية ضد السُّنة، ما أدى إلى بدء فصول مرعبة من التعذيب والاغتصاب وانتهاكات أخرى. أطلق أعضاء حزب البعث بعد تهجيرهم حركات تمرد دموية، فيما عمدت «القاعدة» إلى تجنيد الشبان لتنفيذ عمليات انتحارية وتفخيخ السيارات وخطف الناس وشن اعتداءات إرهابية أخرى في محاولةٍ لنشر الفوضى.

بعد قصف مسجد العسكري في سامراء (ضريح مقدس بالنسبة إلى مئتَي مليون شيعي مسلم) في فبراير 2006، أطلق القادة الشيعة اعتداءً مضاداً عنيفاً، فأشعلوا بذلك حرباً أهلية خلّفت عشرات آلاف القتلى في صفوف العراقيين الأبرياء. رفض الجعفري في البداية الاقتراح الأميركي بفرض حظر تجول بعدما قصفت «القاعدة» سامراء وأصرّ على حاجة المواطنين إلى التنفيس عن غضبهم (ما يعني عملياً السماح باندلاع حرب أهلية وحملة من التطهير العرقي).

قررت واشنطن أن التغيير في المراتب العليا أصبح ضرورياً. بعد الانتخابات البرلمانية في ديسمبر 2005، فتّش المسؤولون في السفارة الأميركية عن زعيم من أوساط النخبة العراقية يستطيع سحق الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، ومحاربة «القاعدة»، وتوحيد العراقيين تحت راية القومية والحكومة الجامعة. كنت وزميلي جيفري بيلز من بين الأميركيين القلائل الذين يجيدون اللغة العربية وتربطهم علاقات جيدة مع أهم الشخصيات في البلد. كان المالكي الرجل الوحيد الذي اعتبرناه مخولاً كسب دعم جميع الفصائل العراقية (ولديه إمكانات كي يصبح زعيماً فاعلاً). اعتبرنا أنه سيكون مقبولاً من الشيعة في العراق (نحو 50% من الشعب)، فهو كان مجتهداً وحازماً وغير فاسد بشكل عام، كذلك كان ضعيفاً على المستوى السياسي، ما يعني أنه سيتكل على التعاون مع قادة عراقيين آخرين لإنشاء حكومة ائتلافية. صحيح أن تاريخ المالكي كان مبهماً وعنيفاً، لكنّ هذا الوضع مألوف في العراق الجديد.

تناقشنا أنا وبيلز وزملاء آخرون في شأن الخيارات المطروحة مع السفير الأميركي زلماي خليل زاد الذي شجّع بدوره قادة العراق اليائسين على دعم المالكي رغم تشكيكهم في هذا الخيار. كان المالكي يقود كتلة تشمل مجموعة صغيرة من النواب، وقد تفاجأ في البداية من الخيار الأميركي، لكنه استغل الفرصة وأصبح رئيس الوزراء في 20 مايو 2006. فتعهد بقيادة دولة عراقية قوية وموحدة.

العراق سيختفي

لم يسبق أن أدار المالكي شيئاً باستثناء حزب سياسي شيعي غامض وعنيف، لذا وجد صعوبة كبرى في قيادة العراق في سنواته الأولى. فواجه أعمال العنف التي كانت تقتل آلاف العراقيين كل شهر وتهجّر الملايين، وشهد على انهيار قطاع النفط وانقسام الشركاء السياسيين وفسادهم، فضلاً عن وصول وفود من الكونغرس الأميركي الذي بدأ يفقد صبره. كان المالكي الحاكم الرسمي للعراق، لكن مع زيادة القوات الأميركية في عام 2007 ووصول السفير راين كروكر والجنرال ديفيد بتريوس إلى بغداد، اتضحت هوية الطرف الذي يمنع انهيار الدولة العراقية.

كان كروكر وبتريوس يجتمعان مع رئيس الوزراء لساعات عدة في اليوم، وقد حصل ذلك بشكل شبه يومي طوال سنتين. على عكس خصومه، لم يقم المالكي برحلات خارجية كثيرة وكان يعمل طوال 16 ساعة في اليوم. نسقنا مقارباتنا السياسية والاقتصادية والعسكرية سعياً إلى التغلب على العوائق التشريعية وتحسين النمو الاقتصادي تزامناً مع ملاحقة «القاعدة» والمخرّبين من حزب البعث والميليشيات الشيعية. بصفتي مساعد كروكر الخاص، كان دوري يقضي بمساعدته على الاستعداد للاجتماعات مع القادة العراقيين ومرافقته لحضورها، فكنت أحلّ مكانه حين يتشاجر العراقيون في ما بينهم. اضطرت الولايات المتحدة إلى التوسط بين العراقيين لأننا شعرنا بأن البلد لن يصبح مستقراً من دون قيادة عراقية موحدة ومتماسكة تتّكل على استعمال القوة ضد المتطرفين الذين يمارسون أعمال العنف.

كانت حركة «الصحوة» أحد أكبر الإنجازات التي تحققت في هذه الحقبة، فقد أبعد المتمردون من حزب البعث ومن القبائل العربية السنية أسلحتهم عن القوات الأميركية، غداة مفاوضات مطولة، ووجّهوها نحو «القاعدة»، ما أسهم في إعادة التماسك إلى العملية السياسية العراقية. كان المالكي في البداية يعارض تسليح المقاتلين السُّنة وتمويلهم، لكنه رضخ في النهاية بفعل الضغوط التي مارسها كروكر وبتريوس عليه، لكنه اشترط أن تدفع واشنطن التكاليف. ثم وافق لاحقاً على توظيف عدد من المقاتلين القبليّين وتمويلهم، لكنه لم يلتزم بجميع وعوده لهم، فتركهم عاطلين عن العمل ومستائين ومعرّضين مجدداً للتطرف.

اعتاد المالكي على عالم السلطة بحلول عام 2008. وبعدما ساد الهدوء في النصف الشمالي من البلد، ازدادت خبرته في أداء عمله. كان يعقد مؤتمرات أسبوعية عبر الفيديو مع الرئيس جورج بوش الابن. خلال هذه الاجتماعات الحميمة، كنا نجلس بهدوء ضمن مجموعة صغيرة خارج إطار الشاشة، وكان المالكي يتذمر غالباً لأنه لا يتمتع بصلاحيات دستورية كافية ويواجه برلماناً عدائياً. في المقابل، كان بوش يحثه على التحلي بالصبر وقد ذكر أن التعامل مع الكونغرس الأميركي لم يكن سهلاً أيضاً.

مع مرور الوقت، أسهم المالكي في عقد تسويات مع خصومه السياسيين ووقّع على عقود بمليارات الدولارات مع شركات متعددة الجنسيات لأجل عصرنة العراق. لم يشعر معظمنا بالتفاؤل تجاه مستقبل العراق في ذروة الحرب الأهلية، لكن بعد سنة على بدء خطة زيادة القوات العسكرية، بدا وكأن البلد عاد إلى المسار الصحيح.

لكن لم تكن الأمور سهلة دوماً مع المالكي. يميل الأخير إلى تصديق نظريات المؤامرة بعد عقود من التعرض لملاحقة أجهزة الاستخبارات التابعة لصدام حسين، وكان مقتعناً بأن خصمه الشيعي مقتدى الصدر يسعى إلى إضعافه. لذا قاد المالكي في مارس 2008 جيشاً عراقياً ضد جيش المهدي التابع للصدر في البصرة. من دون أي تخطيط أو خدمات لوجستية أو استخبارات أو تغطية جوية أو دعم سياسي من قادة العراق الآخرين، خاض المالكي معركة مع ميليشيا مدعومة من إيران كانت قد أعاقت مسار الجيش الأميركي منذ عام 2003.

بقينا أنا وكروكر وبتريوس ومساعد الجنرال في مكتب السفير لساعات عدة وتناقشنا في الخيارات السياسية والعسكرية واتصلنا بالمالكي ووزرائه في البصرة. كنا نخشى اقتحام مقر المالكي الميداني وتعرضه للقتل، وهو تقليد عراقي للاستيلاء على السلطة. اتصلتُ بقادة سُنّة وشيعة وأكراد كي يتمكن كروكر من حثهم على دعم المالكي علناً. أمر بتريوس بوصول أميرال إلى البصرة كي يقود قوات العمليات الأميركية الخاصة ضد جيش المهدي. طوال أيام، تلقيتُ اتصالات من مساعد المالكي الخاص، كاطع الركابي، فطالب بشن ضربات أميركية للقضاء على أحياء كاملة في البصرة. كنت مضطراً إلى تذكيره بأن الجيش الأميركي لا يستعمل القوة بطريقة عشوائية مثل جيش المالكي.

علي خضري رئيس شركة «دراغومان بارتنرز» (Dragoman Partners) المتمركزة في دبي ومديرها التنفيذي. بين عامي 2003 و2009، كان المسؤول الأميركي الذي خدم لأطول فترة متواصلة في العراق، فعمل كمساعد خاص لخمسة سفراء أميركيين ثم أصبح مستشاراً بارزاً لثلاثة رؤساء في القيادة المركزية الأميركية. بصفته مسؤولاً تنفيذياً في شركة {إكسون موبيل}، تفاوض في عام 2011 حول دخول الشركة إلى إقليم كردستان العراق.

صولة الفرسان

نجحت عملية «صولة الفرسان» التي أطلقها المالكي رغم المصاعب. للمرة الأولى في تاريخ العراق، يهزم رئيس وزراء شيعي ميليشيا شيعية مدعومة من الإيرانيين. تلقى المالكي ترحيباً واسعاً في بغداد وفي أنحاء العالم باعتباره رجلاً قومياً ووطنياً، وقد حصد إشادات كثيرة حين سعى إلى تحرير مدينة الصدر في بغداد من جيش المهدي بعد بضعة أسابيع. خلال اجتماع مجلس الأمن القومي العراقي، بحضور كروكر وبتريوس، هاجم المالكي جنرالاته الذين أرادوا تخصيص ستة أشهر للاستعداد للهجوم. أتذكر أنه قال: «لن يبقى العراق موجوداً بعد ستة أشهر!».

بعد تحقيق النصر في البصرة، وفي ظل توافر المساعدات العسكرية الأميركية الهائلة، قاد المالكي حملة لاستعادة مدينة الصدر، فوجّه وحدات الجيش العراقي عبر هاتفه الخلوي. من خلال اندماج غير مسبوق بين الجيشَين الأميركي والعراقي وأجهزتهما الاستخبارية، تم القضاء على عشرات الخلايا المتطرفة الشيعية والمدعومة من إيران خلال أسابيع. هذه هي الخطة الأكثر فاعلية: حملة مدنية عسكرية بارعة تسمح بتوحيد السياسيين العراقيين عبر القضاء على الجماعات المسلحة السنية والشيعية التي دفعت البلد إلى الهاوية.

back to top