عند الساعة 1:40 أقفل مسؤولو الاحتياطي الفدرالي الباب على غرفة مليئة بالصحافيين، وفصلوا الإنترنت، وأعلنوا أنهم سيوزعون الآن بيانين؛ البيان المعتاد من اللجنة الفدرالية للسوق المفتوحة، وبياناً إضافياً من مكتب الأسواق في الاحتياطي الفدرالي لولاية نيويورك.

Ad

أدى هذا إلى حالة من البهجة وحركة شبيهة بالتصفيق في أنحاء الغرفة، لأن البيان الثاني ليس له إلا معنى واحد، هو أن الأوان حان أخيراً لصدور قرار الانسحاب التدريجي من مشتريات الأصول الذي طال انتظاره وكثر نقاشه وأحدث هزة في السوق. وحين انتشر النبأ بعد 20 دقيقة ابتهجت الأسواق، وأقفل مؤشر ستاندار آند بورز 500 عند رقم قياسي جديد، وهو رد فعل إيجابي لم يتوقعه أحد تقريباً.

تقلبات السوق

كان القرار الذي جاء في آخر اجتماع للاحتياطي الفدرالي في 2013، واحداً من هدايا عيد الميلاد التي تبدو مملة ونفعية، مثل حقيبة جديدة، ثم يتبين أنها أحدثت أثراً كبيراً في حياتك. فبعد أكثر من ستة أشهر من التكهنات، وتقلبات السوق، والتوريات الرديئة (كلمة الانسحاب التدريجي بالإنكليزية هي taper، ولم أكن أعلم من قبل أن كلمة tapir تعني حيواناً ثديياً هائماً شكله كالخنزير بأنف طويل) اتخذ البنك قراره. ويستطيع المتداولون العائدون من إجازاتهم الآن أن يفكروا في أمر جديد.

القرار بتخفيض مشتريات السندات من 85 مليار دولار شهرياً إلى 75 مليار دولار يعني أن بن برنانكي، رئيس مجلس الاحتياطي، سيغادر هذا الشهر، بعد أن اتخذ الخطوة الأولى في الابتعاد عن سياسة التسهيل النقدي النشط. وهذا يشكل نهاية أنيقة لعهده الذي استمر ثماني سنوات.

ومع أن الأثر المباشر للانسحاب التدريجي ضئيل -أسعار الفائدة لاتزال عند الصفر و75 مليار دولار لاتزال مبلغاً ضخماً لشراء الأصول كل شهر- فإنه يعتبر «النقطة العليا في التحفيز»، بمعنى أنه النقطة التي يعلن فيها البنك أنه لم يعد بحاجة إلى أن يفعل المزيد بعد الآن لمساعدة الاقتصاد على التعافي.

لكن الانسحاب التدريجي لا يعني أن البنك يستطيع الآن أن يسترخي، أو أن برنانكي ترك إلى خليفته، جانيت ييلين، مجموعة قوية من أوراق اللعب. لقد أحدث البنك «خريطة» قوية في أسلوبه في التواصل على نحو يجعله عرضة في المستقبل للصدمات. وسيكون هذا صحيحاً بصورة خاصة إذا شهد عام 2014، وهو ما يبدو أمراً مرجحاً إلى حد كبير، أول حالة من حالات الهلع التي غابت عنا فترة لا بأس بها، بشأن النمو السريع فوق الحد.

وتم إدخال تعديل إلى الأعلى على المعدل السنوي للنمو في الولايات المتحدة، ليصل إلى 4.1 في المئة في الربع الثالث من 2014. وتشير معظم البيانات حول الربع الرابع إلى تسارع معدل النمو الكامن. وبقليل من الجر من السياسة المالية العامة، ولأن الأسر الآن في وضع يمكنها من الاقتراض من جديد، ومع تحسن الأرقام الاقتصادية حول العالم، فإن الاحتمال يبقى لصالح النمو القوي في الولايات المتحدة هذه السنة.

 إبطاء الاقتصاد

والمشكلة بالنسبة للاحتياطي الفدرالي هي أن سلسلة الأنباء الجيدة يمكن أن تدفع بالأسواق إلى أن ترفض توقعاته، التي تقول إن أسعار الفائدة لن ترتفع إلا بعد مضي فترة لا بأس بها من عام 2015، وانها لن ترتفع إلا بصورة بطيئة بعد ذلك. وإذا بدأت أسعار الفائدة في السوق ترتفع، فإنها ستعمل على إبطاء الاقتصاد، وقد أضعف البنك أدوات التواصل التي يمكنه أن يستخدمها ليؤجل الموعد.

مثلا، العتبة التي حددها البنك لمعدل البطالة وهي 6.5 في المئة، التي لن يرفع أسعار الفائدة إذا ارتفعت عن هذا المعدل، هي من الناحية العملية بائدة. وبدلاً من تخفيض هذا الرقم، قال البنك إنه يتوقع أن يُبقي أسعار الفائدة «متدنية إلى فترة لا بأس بها بعد النقطة التي ينخفض فيها معدل البطالة إلى ما دون 6.5 في المئة»، لكن من السهل على الأسواق أن تختبر وتتجاهل الكلمات المبهمة التي من هذا القبيل.

وواجه بنك إنكلترا أخيراً متاعب مماثلة في العتبة التي حددها، وهي 7 في المئة، حين هبط معدل البطالة فجأة إلى 7.4 في المئة، ما أثار حديثاً عن رفع أسعار الفائدة. وتبين أن العتبات مقنعة جداً، فالأسواق تثق بالبنوك المركزية حين تحدد رقماً معيناً، لكن عوامل القصور في معدل البطالة من حيث كونه مقياساً للصحة الاقتصادية عملت من الناحية العملية على إضعاف موقف البنوك المركزية.

إن مسار مشتريات الأصول الذي رسمه برنانكي سيسبب بعض المشاكل كذلك إذا احتاج البنك إلى الاستجابة في حالة تحسُّن أو تراجُع الاقتصاد. ورغم أن رئيس مجلس البنك يصر على أن مشتريات الأصول ليست «مساراً محدداً سلفاً»، فإنه يقول إن الخطة الأساسية هي أن ينفذ البنك انسحاباً تدريجياً صغيراً في كل اجتماع اعتباراً من الآن فصاعداً، بحيث تصل المشتريات إلى الصفر بنهاية العام الجاري. وهذا يشبه الدخول في سيارة وبرمجة وجهة الوصول في الأقمار الصناعية. إذا تراجع الاقتصاد، ربما يتوقف البنك أثناء الطريق لتناول وجبة صغيرة، بالتالي مساره ليس محدداً سلفاً بالضبط. لكن من جانب آخر لا يوجد شك كبير حول الوجهة التي هو ذاهب إليها.

وكما هو الحال مع تليين الإرشاد المتقدم، فإن أثر ذلك هو أن يجعل البنك أقل إثارة للرهبة، وبالتالي يصبح أكثر عرضة للضعف، إذا أرادت الأسواق اختبار رغبته في إبقاء أسعار الفائدة متدنية. وقبل الانسحاب التدريجي كانت مشتريات الأصول ذات نهاية مفتوحة، وبالتالي كان على الأسواق أن تقلق من أنها ستستمر إلى الأبد. في المقابل، حين يقول البنك «سنؤخر الجولة التالية من الانسحاب التدريجي شهراً»، فليس هذا هو التهديد الذي يخاف المتداولون من المراهنة ضده.

وبالتالي من المرجح عند مرحلة معينة أثناء سنتها الأولى رئيسة لمجلس البنك، أنْ تواجِه ييلين لحظة تكون فيها أسعار الفائدة أعلى مما تريد، أو أعلى مما ترى أنه مبرر. وإذا وصلت هذه اللحظة، فستكون لها عواقب وتداعيات في مختلف أنحاء العالم، وسيكون الدولار قوياً على نحو يجعله يشفط رأس المال من أكثر الأسواق الناشئة المعرضة للضعف.

تقلص الفوائد

وسيتعين على ييلين أن تجد طريقة للاستجابة لهذا الوضع –وجعبة الاحتياطي الفدرالي من الأدوات ليست خالية، فبإمكانها أن تشدد الإرشاد المتقدم من جديد، وربما تحدد هدفاً أدنى للتضخم قبل أن تستطيع أسعار الفائدة الارتفاع، أو حتى تعود مرة أخرى إلى تاريخ تقويمي. وتستطيع أن تقلص الفوائد التي تُدفع على احتياطيات البنوك، بل يستطيع البنك حتى أن يستخدم مشتريات الأصول مباشرة لاستهداف أسعار فائدة معينة في السوق، إذا خرجت عن الخط مسافة تزيد على الحد.

نعم حالة الاقتصاد تبدو أفضل من ذي قبل، والانسحاب التدريجي بدأ، لكن هذا ليس نهاية المواضيع المثيرة من الاحتياطي الفدرالي، وربما لا يكون نهاية الإجراءات الرامية إلى تسهيل السياسة النقدية. وبالنسبة إلى ييلين، هناك تحديات جديدة في الانتظار.