يبقى تاريخ الشعوب والدول نهراً جارياً ومستمراً، ويمكن للمؤرخ أن يبدأ التدوين من النقطة الزمنية التي يشاء. لكن تبقى المعاصَرة للأحداث المدونة من أكثر الأسس صحة في المرجعية التاريخية. وإذا أضفنا للمعاصَرة الاستناد إلى الوثائق المكتوبة، أمكن أن نخرج بصورة قريبة ومتكاملة للمشهد التاريخي. ولا يبقى لوضع اللمسات الأخيرة غير حُسن العرض والتزام الحياد حين التعامل مع الحقائق والشواهد.

Ad

وحيادية العرض قد تتطلب جهداً مضاعفاً حين يكون الكاتب جزءاً من المشهد، أو يمت بصلة وثيقة إلى الشخصيات التاريخية التي يكتب عنها. فهو في النهاية إنسان قد تسيّره عواطفه وميوله وتركيبته النفسية دون أن يشعر، بل لعلنا نعذره كونه يرى الأحداث ذات الصلة من منظورها الداخلي اللصيق بوجدانه، وليس من منظورها الخارجي فقط. يضاف إلى ذلك معاناته من عبء المعلومات المتوفرة لديه، وضرورة التحلي بحكمة التصرف فيها، فيما يتعلق بالإظهار أو الحجب.

في هذه الحالة – أي حالة الكتابة من داخل المشهد - أعتقد أن كتابة التاريخ تتحول تلقائياً إلى فن آخر من فنون الكتابة، وهو فن السيرة الذاتية. ففي السيرة الذاتية يمكن أن تتجمع كل الخيوط وتتعانق: التاريخ، والحكاية، والحوار، ورسم الشخصيات، وانسراب العاطفة، ومستراحات أخرى تضخ في المشهد نبضاً إنسانياً أكثر غنى وتوهّجاً. كنتُ أتمنى وأنا أتصفح كتاب (صقر الخليج) للدكتورة سعاد الصباح أن أكون بإزاء كتاب في السيرة الذاتية المحضة، وأن أرى كيف تتغلب ذائقتها الأدبية المرهفة على رصانة التاريخ وجهامة الوثائق، وهي الأقرب إلى المشهد والألصق بشخصية الشيخ عبدالله المبارك الصباح (1914م – 1991م).

صحيح أن عرض الكتاب كان عرضاً منهجياً، متتبعاً للمراحل التاريخية، ومستنداً إلى المراجع والوثائق في تدوين السيرة الإدارية والسياسية لرجل بحجم الشيخ عبدالله مبارك، وكاشفاً عن العديد من المنعطفات والإشكالات التي رافقت مسيرة حياته الزاخرة، إلا أن عنصر الغموض لايزال – برأيي – يرين على أهم مشهد من مشاهد حياته، وهو ما يتعلق باستقالته من مناصبه وهجرته خارج الكويت. ففي صفحة 391 / الطبعة الخامسة، تبدأ الكاتبة الحديث عن موضوع الاستقالة بعد إحداث جملة من التغييرات في نشاط الدوائر الحكومية التابعة للشيخ، الأمر الذي أدى لامتعاظه وتقديمه استقالته. ورغم رفض المجلس الأعلى للاستقالة فإن الشيخ أصر على أن يبتّ فيها الحاكم شخصياً. وفي نص الوثيقة البريطانية: «لم يسحب عبدالله مبارك استقالته، كما لم يقبلها المجلس الأعلى، ولم يتخذ الأمير قراراً بقبولها، وكان ذلك وضعاً غريباً وأزمة غير مسبوقة تواجه نظام الحكم في الكويت». ثم مباشرة يصدر مرسوم أميري بتاريخ 17 يونيو 1961م ينص على تعيين الشيخ سعد عبدالله السالم الصباح رئيساً للشرطة والأمن العام، أي بديلاً عن الشيخ عبدالله المبارك، الذي أعفى نفسه من مسؤولياته السياسية وغادر الكويت. ورغم إرسال وفد «يحمل رسالة من الأمير يطلب فيها من الشيخ عبدالله العودة للتفاهم، إلا أن الشيخ قال: إن موقفه معروف ورأيه في القضايا موضع الخلاف ليس محلاً للتغيير»!

هكذا تتركنا الكاتبة دون أن نعرف ما هي (القضايا موضع الخلاف)! أما حديثها عن الشائعات التي روّج لها المسؤول السياسي البريطاني عن مدى نفوذ الشيخ عبدالله مبارك العسكري، وامتلاكه لأسلحة، وتخطيطه لانقلاب، فهي مجرد شائعات لا تصمد أمام أدلة ولائه المطلق لأسرة الحكم، وحبه لاستقرار الكويت وأمنها كما تقول الكاتبة.

وعليه (فالقضايا موضع الخلاف) تبقى علامة الاستفهام الأخيرة في سيرة عبدالله المبارك، الذي كما يبدو فضّل أن تبقى طيّ الكتمان، دون أن يغلق الباب أمام الاجتهادات التحليلية التي قد يصل إليها من يعيد النظر في تفاصيل مسيرته، وانفتاحه على القضايا العربية وميوله القومية وكرهه لسياسات الإنجليز. تقول الكاتبة في نهاية إيرادها لحيثيات الاستقالة:

«لقد التزم (الشيخ) الصمت، ولم يدلِ بأي تصريح صحفي حول الشؤون الداخلية أو الخارجية للكويت على مدى الثلاثين عاماً التي مرت ما بين استقالته ووفاته، أو عن أسباب هذه الاستقالة».