أحببتها
هناك كتب أقرأها ثم أتخلص منها، وهناك كتب لا أستطيع تكملتها فمن بدايتها كُتبت لترمى في المهملات، وهناك كتب أقرأها وأحتفظ بها الى آخر يوم في عمري، ليس فقط لأعيد قراءتها بل لأنها احتلت مكانها في وجداني، ومن هذه الكتب رواية «أحببتها» للكاتبة الفرنسية «آنا غافالدا»، فهذه الكاتبة الفرنسية الشابة استطاعت أن تتغلغل في أدق تفاصيل المشاعر في العلاقات العاطفية بكل شغفها وألمها وكرهها وغيظها وعدوانيتها المتراوحة ما بين الكر والفر والتقدم والتراجع في ترمومتر حرارة العواطف الإنسانية، التي تمكنت من رصدها والتغلغل فيها بجدارة مكنتها من أن تتصدر قائمة أكثر الكتب مبيعا وترجمة للغات العالم، حتى أصبحت اليوم الروائية الأولى في فرنسا رغم صغر سنها، وهذا يدل على أن موهبة الكاتب تبدأ من أول كتاب له، ولا ينتظر منها أن تنضج مع تقدم العمر، فإما أن يكون الكاتب موهوبا من بدايته أو غير موهوب، وغير مسموح بالتعذر بصغر السن فهذا كلام «فاضي» غير مقبول.الرواية ببساطة شديدة تتناول موضوعا متكررا مليون مرة ألا وهو الخيانة، لكن الكاتبة استطاعت أن تغوص في التفصيلات الدقيقة للمشاعر والتصرفات وردود الفعل تجاهها، حتى وهي تعرضها علينا نجدها تقتل، مع أننا نعيش مثلها كل يوم، إلا أننا لا نستشعرها أو لا نستطيع تحديدها أو وصفها بمثل ما كتبته، فما أصعب الخيانة أياً كان شكلها أو وطنها فمشاعر وعواطف البشر تتشابه، وأمرها خيانة من نعشقه.
أقرأ الرواية وأتوجع وأقول آخ إنها تدوس في جروحنا في هذا الحوار الناضج الرائع الذي يغوص في عمق الذات البشرية ومشاكلها، ويصطادها بملقط جراح خبير شاطر يعرف أين حقيقة وجعها.حين يخون الرجل، وحين تغض النظر المرأة، أو العكس من ذلك حين تتبدل الأدوار في هذه الرواية التي تم رسم شخصياتها بدقة أزميل نحات متمكن منها ومن الغوص في دواخلها وإخراج كل مكمنها السري الخفي.معالجة الخيانة في موقفها الصعب، فإما أن تترك وتتخلى عن كل حياتك وتبدأ من جديد من دون أدنى التفاتة خلفك، للحطام الذي تركته ودسته بإهمال. أو أن تعيد حساباتك وتختار المكاسب المادية والاجتماعية والمحافظة على استمرار الوضع العائلي بأي شكل كان حتى وإن كانت النفس مدمرة، فالكاتبة بينت الخيانة ووقع ألمها على الطرفين، فادريان الشابة التي تكتشف خيانة زوجها لها وتخليه عنها وعن طفليها ليلحق بمن أحبها من دون مراعاة لأي كان، خيانة الزوج هنا تقابلها خيانة والده أيضا لأمه، لكن والده تخلى عن الحبيبة لأجل المحافظة على وضعه الاجتماعي والأسري عكس ابنه تماما، مما جعل الخيانة تُطرح من منظورين إنسانيين مختلفين.عندما تكون كل كلمة وكل جملة عميقة مذهلة ساحرة، ماذا نسمي هذا؟ سحر وعمق وبساطة الإبداع الآسر كله في هذه الرواية الحساسة التي تمتع وتسلطن العقل والروح معا، لأنها سيمفونية إنسانية في مواجهة مع ذواتنا، وهل حقيقة قد عشنا حياتنا؟هذه رواية تطرح كل جروح الحب والخيانة التي تمر على الجميع، وكيف يتعامل معها كل طرف فيها، فهي كما تقول الكاتبة: «ترى كم من الزمن نحتاج لننسى رائحة ذلك الذي أحببناه؟ ومتى تحين اللحظة التي نتوقف فيها عن حبه؟كنت أترقب اللحظة التي ستقتلع فيها الريح أركان البيت، انتابني إحساس بأنني مُتخلى عني.من الشجاعة أن ينظر المرء إلى حياته فلا يرى فيها أي شيء سوي، أي شيء متناغم، من الشجاعة أن يحطم المرء كل شيء، أن يدمر كل شيء... فهل كان ذلك عن أنانية؟ عن أنانية خالصة؟ ولكن لا، عن ماذا إذن؟ أهي غريزة البقاء؟ أم نفاد بصيرة؟ أم خوف من الموت؟شجاعة المواجهة. لمرة واحدة في الحياة على الأقل شجاعة مواجهة الذات لذاتها، لذاتها وحدها في النهاية».كم منا يستطيع مواجهة ذاته إلى هذه الدرجة؟ بكل شراسة هذا الوضوح ومهما كانت نتائجه ضارة أو مدمرة؟هذه كاتبة تستحق الإعجاب والشهرة والمبيعات التي جنتها فهي التي تقول: «السفينة رست بأمان! السفينة رست بأمان! لكن بأي ثمن يا إلهي؟ بأي ثمن؟ يرهقهم الندم والحسرات، مثقلين بالإهانات ثم التصالحات، بجروح لا تندمل ولن تندمل أبدا».