كانت الحملة الصارمة التي شنتها الحكومة اليونانية ضد حزب الفجر الذهبي اليميني المتطرف سبباً في إحياء مسألة محيرة بدا الأمر وكأنها اختفت مع نهاية الحرب الباردة: هل يوجد مكان في الديمقراطيات الليبرالية للأحزاب المناهضة للديمقراطية بوضوح؟

Ad

لا شك أن الديمقراطيات الليبرالية استشعرت التهديد منذ انهيار الشيوعية في عام 1989، ولكن في الأغلب من قِبَل إرهابيين أجانب، لا يميلون إلى تشكيل أحزاب سياسية ويجلسون في برلمانات هذه البلدان. هل من الواجب إذن حظر أو تجريم الأحزاب المتطرفة التي تسعى إلى التنافس داخل الإطار الديمقراطي، أم أن مثل هذا القيد المفروض على حرية التعبير وتكوين الجمعيات يشكل في حد ذاته تقويضاً لهذا الإطار؟

ومن الأهمية بمكان أن يُعهَد بمثل هذه القرارات إلى مؤسسات غير حزبية مثل المحاكم الدستورية، وليس الأحزاب السياسية الأخرى التي سوف يظل زعماؤها دوماً واقعين تحت إغراء حظر منافسيهم. ومن المؤسف أن التحركات ضد الفجر الذهبي ترتبط في الغالب بمصالح الحكومة، ولا يُنظَر إليها باعتبارها نتيجة لحكم حذر مستقل. وعلى السطح، يبدو الدفاع عن النفس ديمقراطياً هدفاً مشروعا. وعلى حد تعبير قاضي المحكمة العليا الأميركية روبرت جاكسون (الذي كان أيضاً كبير المدعين الأميركيين في محاكمات نورمبيرغ)، فإن الدستور ليس "ميثاقاً انتحاريا"- المشاعر التي رددها الفقيه القانوني أهارون باراك، الذي شدد على أن "الحقوق المدنية ليست مذبحاً للتدمير الوطني".

ولكن الدفاع عن النفس ديمقراطياً قد لا يترك في نهاية المطاف أي ديمقراطية يمكن الدفاع عنها إذا زاد عن حده، فإذا كان الناس يريدون حقاً الانتهاء من الديمقراطية، فمن الذي قد يمنعهم؟ وعلى حد تعبير أوليفر ويندل هولمز، وهو قاض آخر من قضاة المحكمة العليا في الولايات المتحدة: "إذا كان إخواني المواطنون يرغبون في الذهاب إلى الجحيم فسوف أساعدهم، فهذه وظيفتي".

لذا فمن الواضح أن الديمقراطيات الآن ملعونة إذا حظرت هذه الأحزاب وملعونة إذا لم تحظرها. أو بلغة أكثر رقياً كما جاء على لسان الفيلسوف الليبرالي الأكثر نفوذاً في القرن العشرين، جون راولز، فإن الأمر يبدو أشبه بمعضلة عملية لا تستطيع الفلسفة وحدها حلها".

ولا يقدم التاريخ دروساً واضحة، فالعديد من الناس يميلون إلى تصور مخالف، فإذا ما نظرنا إلى الوراء الآن فسوف يتبين لنا بوضوح أن جمهورية فايمار ربما كانت ستنجو لو تم حظر الحزب النازي آنذاك. وقد اشتُهِر جوزيف جوبلز، وزير الدعاية في عهد هتلر، بالتباهي بعد استيلاء النازيين على الحكم بالقانون: "سوف تظل دوماً واحدة من أفضل نكات الديمقراطية أنها زودت أعداءها الفانين بالسبل التي مكنت محقها وتدميرها".

ولكن الحظر ما كان ليوقف الاستياء العام من قِبَل الشعب الألماني إزاء الديمقراطية الليبرالية، ولعل نظاماً استبدادياً آخر كان سينشأ بعد ذلك الحظر، بل رغم أن ألمانيا الغربية حظرت حزباً للنازيين الجدد والحزب الشيوعي في خمسينيات القرن العشرين، فإن بعض البلدان- خصوصا في جنوب وشرق أوروبا، حيث ترافقت الدكتاتورية مع قمع التعددية- استخلصت الدرس المعاكس على وجه التحديد بشأن منع الاستبداد، وهذا أحد الأسباب التي جعلت اليونان، على سبيل المثال، محرومة من الأحكام القانونية اللازمة لحظر الأحزاب.

ومحاولة اليونان رغم ذلك تدمير الفجر الذهبي فعليا- فقد صوت البرلمان للتو بتجميد التمويل الحكومي للحزب- تشير إلى أن أغلب الديمقراطيات سوف تكون راغبة في نهاية المطاف في رسم الخط الفاصل في مكان ما. ولكن أين على وجه التحديد ينبغي رسم ذلك الخط؟

بادئ ذي بدء، من الأهمية بمكان أن ندرك أن هذا الخط لابد أن يكون واضحاً للعيان قبل نشوء الأحزاب المتطرفة وليس بعده، فإذا كان لنا أن نعلي مبدأ سيادة القانون، فلا ينبغي لدفاع الديمقراطية عن ذاتها أن يبدو ارتجالياً أو تعسفيا. وبالتالي فإن معايير الحظر لابد أن تعرض بوضوح مقدما.

والمعيار الذي يبدو مقبولاً عالمياً هو استخدام أو تشجيع أو على الأقل التغاضي عن العنف- كما كانت الحال بشكل واضح مع الدور الذي لعبه حزب الفجر الذهبي في الهجمات على المهاجرين في أثينا. وهناك قدر أقل من الإجماع بشأن الأحزاب التي تحرض على الكراهية والملتزمة بتدمير المبادئ الديمقراطية الأساسية؛ لأن العديد من الأحزاب المتطرفة في أوروبا تنحرف عن مسارها حتى تؤكد أنها ليست ضد الديمقراطية؛ بل إنها على العكس من ذلك، تكافح من أجل "الشعب".

ولكن الأحزاب التي تسعى إلى استبعاد أو إخضاع جزء من "الشعب"- على سبيل المثال المهاجرون وذريتهم- تنتهك المبادئ الديمقراطية الأساسية. حتى إذا لم يكن حزب الفجر الذهبي- حزب النازيين الجدد في المظهر والمخبر- انخرط في العنف، فإن موقفه المتطرف المناهض للهجرة وتحريضه على الكراهية في وقت يتسم باضطرابات اجتماعية واقتصادية خطيرة يكفي لاعتباره مرشحاً معقولاً للحظر. ويحذر المنتقدون من منحدر زلق، فأي خلاف مع سياسة الهجرة التي تتبناها الحكومة، على سبيل المثال، قد يحكم عليه في نهاية المطاف بالعنصرية، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى قمع حرية التعبير. وعلى هذا فمن الأهمية بمكان تطبيق ما يشبه المعيار الأميركي الكلاسيكي- فالخطاب موضع التساؤل لابد أن يشكل "تهديداً واضحاً وقائما" بالعنف. أما الأحزاب الهامشية التي لا علاقة لها بالعنف السياسي ولا تحرض على الكراهية فربما ينبغي لنا أن نتركها تعمل في سلام، رغم أن خطابها قد يكون مقيتا.

بيد أن الأحزاب التي هي أقرب إلى تولي السلطة فلابد أن تكون مسألة مختلفة، حتى إذا كان حظرها قد يبدو غير ديمقراطي بشكل تلقائي (فهي لديها بعض النواب في البرلمانات في نهاية المطاف). وفي قضية شهيرة، وافقت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان على حظر "حزب الرفاه" في تركيا في حين كان ذلك الحزب عضواً بارزاً في الائتلاف الحاكم.

ومن قبيل ترديد الأساطير أن نزعم أن الحظر يحول زعماء الأحزاب المتطرفة إلى شهداء، فالواقع أن قِلة قليلة من الناس يتذكرون من كان زعيم النازيين الجدد أو الشيوعيين بعد الحرب العالمية الثانية، ولا نستطيع أن نزعم أن الحال دوماً أن الأحزاب الرئيسة قادرة على قطع الدعم المقدم للمتطرفين من خلال الانتقاء المشترك لشكاواهم ومطالبهم. فقد ينجح هذا النهج أحيانا، وقد لا يفلح في بعض الأحيان؛ ولكنه يرقى دوماً إلى اللعب بالنار.

إن حظر الأحزاب لا يعني بالضرورة إسكات صوت المواطنين الذين يستسلمون لإغراء التصويت للمتطرفين. فلابد من الإنصات إلى مخاوف هذه الأحزاب ومناقشتها؛ ومن الأفضل في بعض الأحيان أن يقترن الحظر بالجهود المتجددة في مجال التثقيف المدني والتأكيد على أن المهاجرين ليسوا السبب في المشاكل التي تعانيها اليونان. صحيح أن مثل هذه التدابير قد تبدو وكأنها متعالية أو متفضلة، ولكن مثل هذه الأشكال من المشاركة العامة هي السبيل الوحيد لتجنب ظهور جهود مكافحة التطرف وكأنها هي ذاتها متطرفة.

* جان فيرنر مولر ، أستاذ العلوم السياسية في جامعة برينستون، ومؤلف كتاب "مبارزة الديمقراطية: الأفكار السياسية في أوروبا القرن العشرين".

«بروجيكت سنديكيت-معهد العلوم الإنسانية» بالاتفاق مع «الجريدة»