هل علاقة الشاعر مع اللغة استثنائية؟ وهل قارئه بالتالي قارئ استثنائي؟

Ad

هذا التساؤل مطلعُ متاهةٍ في الشعر الحديث كمْ ضلّت فيها الخطى، لكنه مطلع بداهة أيضاً، قد لا تتوافر إلا عند قلة ممن لا تَغيمُ البداهةُ عن وعي علاقتهم مع النفس، والآخر، والحياة.

 حين يقول الشاعر إن "ألسنة النيران أبداً تلِغُ الخنادقَ المهجورة"، إنما يلقي جملة بلغت غايتها في إرباك اللغة السوية، والمخيلة السوية، والمنطق السوي. وحدها العاطفة المستثارة تتقبلها برضا، لأن العاطفة غامضة بطبيعتها.

 هناك طريقةٌ مختلفة يعمد إليها الشاعر لا تربك اللغة، ولا المخيلة ولا المنطق. يضع صياغةً سوية بكل معنى الكلمة لا تتجاوز جملةً مثل: "ذهب محمدٌ إلى السوق واشترى برتقالةً. ذهبتُ إلى السوق فافتقدتهما". لكنها صياغة محيّرة، لا تقل إثارة للعاطفة الغامضة عن الجملة السابقة، والشعراء الجيدون يُحسنون الطريقتين عن وعي. وعن وعي قال أحد المتصوفة إن العبارة كلما ضاقت اتسعت رؤيتُها.

  في الحكاية، والقصة، والحوار المسرحي... لا يحتاج الكاتب إلى إرباك في اللغة، وما تنطوي عليه من مخيلة ومنطق، إذا احتاج إلى إرباك ففي عناصر الحركة الكامنة في الزمان والمكان والشخوص. وهو إرباك، إذا حدث، لن يُطفئ حماسة القارئ في ملاحقة الحكاية. فالإرباكُ هنا يبدو أفقياً، رحباً، مرئياً على مدى البصر. في حين يبدو الإرباك الذي يقتصر على اللغة ومخيلتها ومنطقها عمودياً.

  في هذا الفارق يكمن الدافعُ وراء كثرة جمهور القصة، وقلة جمهور الشعر. وهي محصلة طبيعية تذكرني بالفارق بين جمهور لعبة كرة القدم، وجمهور لعبة الشطرنج. ففي الأولى دراما أفقية بالغة الحيوية مشروطة بعناصر الشخوص والزمان والمكان. وفي الثانية دراما عمودية بين مفردات رمزية (تُشبه مفردات اللغة) تمثلها البيادق. ولعل هذا الفارق يقرب لنا أكثر علّةَ الكثرة في جمهور الأولى والقلةِ في جمهور الثانية.

    من الضروري أن أوضح أنني هنا لا أولّد معيارَ قيمة من هذه المقاربة. فليس المقصود أن يكون الشطرنج أرفع مستوى من كرة القدم، ولا الشعر أرفع من الرواية. المقصود إيضاحي، يُقرب علّةَ هذه الندرة العددية في الجمهور التي خُص بها الشعر.

    والآن نقع في أول شرك من المتاهة. لأن هناك من سيقول بطُمأْنينةٍ إن التراثَ العربي والتراثَ الانساني يُبلغنا دائماً عن سعة انتشار الشعر بين الناس. وهو معتقد يحتاج إلى احتراس. صحيح أنني أقتصر، بشأن هذه الصفة الشعرية، على القصيدة الحديثة التي ورثت القصيدة التقليدية وتجاوزتها، ولكن رؤيتي تتسع للشعر عامة.

    كان الشعر في البدأ توءم الموسيقى، وقرين الأغنية. ولدى العرب قبل التدوين، يُتناقل على شفاه الرواة. ولكن كم كان عدد الرواة الذين نعرف؟ وحين جاء عصر التدوين، والاستنساخ والمكتبات في بيوت الخلفاء والأمراء وأصحاب الشأن، لنا أن نتساءل: كمْ تُرى كان عدد النسخ من كلَ ديوان شعر؟ وكم عدد مقتني هذه النسخ، أو عدد القادرين على الاطلاع عليها، والتمتع بأشعارها. كل ما وردنا من روايات في كتب الأدب حول كتابة الشعر، وإنشاده، وروايته، تدور في حلقات المثقفين الضيقة، أو حلقات المتنفذين الأكثر ضيقاً. فمن أين جاءت فكرة جمهور الشعر هذه؟

اليوم، حين تحتشد قاعات الشعر بالجماهير، فلدافع يتجاوز الشعر بمدى غير محدود. حماسة جاهزة باتجاه النجم، أو حماسة جاهزة باتجاه الشعار. من يجرؤ على قراءة القصيدة، التي قاربتُها بلعبة الشطرنج، عادةً ما يترك المنصةَ كسيراً، خائباً، ولا يتّعظ! الجماهيرُ غير مذنبة في هذا. الشاعر الجيد لا يسعى إليهم متفضلاً، ثم مُستَفزّاً، ثم متعالياً رافضاً. عليه أن يحتكم إلى البديهة: الجمهور الواسع يحتاج إلى أغنية تُرخي أعصابه، لا إلى لعبة شطرنج تُربكها وتثيرها. أذكر في إحدى مرابد العراق صعد المنبر شاعر تونسي مُلتبس، وبحماسة أعلن في أحد الأبيات بأنه: "جاءهم شاعراً عدمياً"، فضجت القاعة بالتصفيق والهتاف. فبهت المسكين على الأثر لهذا الحماس المفاجئ لعدميته.

الجمهور أرادها "شاعراً عربياً" فسمعها كذلك، وصفق لما أراد وسمع.