يقول الله تعالى في محكم كتابه "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا"، الإنسان مخلوق مكرم من خالقه جل وعلا، كرمه– سبحانه وتعالى– بنفسه، وهو بهذه الصفة، صفة التكريم الإلهي، له حقوق ليس لأحد أن ينتهكها، ولا حق لأحد أن يهدر حريته أو يمسّ كرامته، فالنفس الإنسانية في ديننا هي الأسمى قيمة.

Ad

 لقد حرم ديننا تفجير الذات أو قتل النفس الإنسانية أو انتهاك كرامتها "مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا"، عظّم الإسلام حرمة دم الإنسان وشدّد على صيانة كرامته واحترام شخصيته والحرص على مشاعره وعدم إيذائه أو ترويعه أو التجسس عليه أو إهانته أو تحقيره أو ذمه أو شتمه أو اغتيابه، حياً وبعد مماته "أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتا"، ولكن الذي حصل خلال أكثر من نصف قرن، أن الأنظمة "الوطنية" التي حكمت بعد الاستقلال وجلاء المحتل الأجنبي، أهدرت كرامات شعوبها، جماعات وأفراداً.

 كان المحتل الأجنبي أكثر احتراماً ومراعاة لكرامة الإنسان العربي، عاش هذا الإنسان في تلك المجتمعات التي شهدت ثورات الربيع العربي، مسلوباً من كرامته، ولم يكن ليشعر باسترداد كرامته الإنسانية إلا إذا هاجر أو سافر إلى تلك البلاد التي تحترم حرية الإنسان وكرامته، صبرت تلك المجتمعات على حكم القهر والإذلال حتى فاض بها، فثارت في وجه الظالمين المفسدين، وأسقطت أنظمتهم الفاسدة، لكن الأمور ازدادت سوءاً اليوم على ضوء المشهد السياسي العام على امتداد الساحة في العراق وسورية ولبنان وتونس وليبيا واليمن وفلسطين.

 لقد تجاوز الأمر موضوع "كرامة الإنسان" ليصل إلى "قتل الإنسان" بدم بارد، المئات من البشر من المدنيين الأبرياء، نساء وأطفالاً وشيوخاً تذهب دماؤهم هدراً، يتساقطون كل يوم "ضحايا"، إما للعنف الإرهابي الذي توحش وداس كل المحرمات أو للصراع الطائفي الدموي أو الظلم الداخلي أو بسبب العدوان الخارجي الإسرائيلي، فالقادة والرموز والمحرضون والمعتدون يعيشون آمنين دون أدنى إحساس بمسؤولية أخلاقية أو إنسانية أو محاسبة دولية أو عربية.

 تحولت الساحة العربية إلى ساحة اقتتال بين جماعات أيديولوجية عنيفة تنشر الرعب والقتل، وتسعى إلى تكوين "دويلات" بائسة على أنقاض "الدولة الوطنية" التي فشلت في تعزيز مفهوم "المواطنة"، وترجمتها على أرض الواقع في علاقات لا تفرق بين المواطنين، وفي فرص متكافئة لا ترتبط بانتماءات مذهبية أو دينية أو قبلية، وفي ممارسات لا تميز بين مكونات المجتمع الواحد، ولا تهمش مكوناً على حساب مكون آخر، كما فشلت الدولة الوطنية في تحقيق "التحصين الديني والثقافي" للمجتمع لمواجهة أمراض التطرف والتعصب والكراهية والعنف، وأخفقت في تعزيز قيمة "الإنسان" وإعلاء شأنه والمحافظة على كرامته، وبدأت مبكراً بممارسات قمع حريات المواطن وأساليب التعذيب والإذلال في السجون.

 لم يتعرض الإنسان العربي للقهر والإذلال في ظل المحتل الأجنبي كما فعلت الأنظمة الثورية العربية التي رفعت الشعارات الوطنية وتغنت بـ"بلاد العرب أوطاني"، وداست كرامة المواطنين، وأخفقت الدولة الوطنية التي أعقبت حكم المحتل الأجنبي في دمج مكونات المجتمع (المذهبية والطائفية والدينية والقبلية) دمجاً طوعياً في إطار المشروع الوطني الجامع الذي يسمو على الغرائز والانتماءات والولاءات الأولية لمكونات المجتمع التي استشعرت التهميش والدونية، فلجأت إلى الطائفة والقبيلة والجماعة للحماية والأمن والكرامة، وأصبحت اليوم تسعى إلى تكوين دويلات منفصلة.  آلاف البشر يتساقطون سنوياً في أرض العرب بلا كرامة، قتلى وجرحى ويشردون، إذ أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان بأن عدد القتلى وصل إلى 172 ألفاً وعدد اللاجئين إلى 3.5 ملايين والنازحين 7.5 ملايين، وما زال بركان العنف والتعصب والكراهية يقذف حممه فيقتل ويدمر ويشرد، كل تجليات المشاهد الدامية وكل هذه المجازر البشعة وكل هذه النار الحامية التي تجتاح المنطقة وتحصد الأرواح، أساسه الأول، أن الإنسان لا قيمه له في أوطاننا، ما أرخص دم الإنسان العربي! لو كان لهذا الإنسان قيمة عليا لدى النظم الثورية العربية، لما زجت به في معارك خاسرة.

 ففي الأمس ضحى الأيديولوجيون القوميون بشعوبهم، وجلبوا الخراب والكوارث لأوطانهم تحت شعارات قومية خادعة، الوحدة، الحرية، الاشتراكية، واليوم الأيديولوجيون الإسلاميون يكررون نفس الخطايا تحت شعارات "الجهاد" و"المقاومة" و"كرامة الأمة" يحرضون الشباب ويزينون لهم الذهاب إلى مواطن الهلاك لتفجير أنفسهم في أناس أبرياء، وهؤلاء الشباب عندهم القابلية، فنحن لم نرسخ في نفوسهم قيمة الإنسان وكرامته، فلا دلالة لهذه العمليات الإجرامية المستشرية في الساحة إلا أن الدم العربي والمسلم لا قيمة له عند هؤلاء.

 الأيديولوجيون– كافة– عندنا وعند الآخرين لا اعتبار للبشر عندهم، ضحى هتلر وموسيليني وستالين بالملايين من البشر من دون أي ندم! الأيديولوجيون عامة يستخفون ويسترخصون قيمة الإنسان، 4 آلاف عربي انتحاري فجروا أنفسهم بالعراق خلال عقد بحجة "مقاومة المحتل"، لكن في المقابل قتلوا آلاف العراقيين الأبرياء... هل هؤلاء يقيمون للإنسان وزناً؟! وهذا الرمز الديني الذي تباهى على الملأ "إذا كان الغرب يملك القنابل الذرية فنحن نملك القنابل البشرية"، ترى ما قيمة الإنسان العربي والمسلم لديه؟! وأي قيمة للإنسان والأوطان لدى حزب طائفي دخل في مغامرة غير محسوبة، كانت نتيجتها حرباً عدوانية دمرت البلاد وقتلت وجرحت الآلاف؟!

 وهذا القائد "المقاوم" الذي أراد التهوين والتخويف والتبرير، قال في محاضرة بدمشق، قبل سنوات: إذا خسرنا 1500 شهيد، فإن بناتنا المجاهدات أنجبن خلال فتره العدوان– العدوان الإسرائيلي السابق– 3500 طفل فلسطيني... ترى هل نتناسل ليصبحوا وقوداً في معارك خاسرة؟!

 *كاتب قطري