رغم جميع ما يقوله لنا المتشائمون، لايزال العالم يزداد غنى. أما أوروبا فيمكن أن تعمها أزمة اليورو، والولايات المتحدة يمكن أن تقع في مأزق سياسي وانسحاب غير مسبوق من برامج التحفيز المالي، الأمر الذي يسبب بلاشك مشاكل في بلدان أخرى.

Ad

وبحكم الظروف، وبحكم الاختيار كذلك، تآكلت قدرة أميركا ورغبتها في العمل.

موسم حسن النية فتح الباب أمام سيل من التنبؤات الجديدة، لكن أغلبها يتم نسيانه بسرعة. ربما كان ذلك رحمة بنا، بعدما رأينا هذا المعدل الضخم من التعليقات في الصحف والمحطات الإذاعية والتلفزيونية. عالم اليوم يدور بسرعة أمام الناظر إلى الكرة البلورية، التي تكشف لهم المُخَبَّأ. لكن الطريقة الأفضل التي تساعدنا على رؤية ما سيحدث هي ملاحظة بعض التغيرات في القوى الأساسية التي تشكل المشهد العالمي. سيكون الخط العام الذي ينتج عن ذلك واحداً من فورات الازدهار والفرص المتزايدة، وفي الوقت نفسه تراجع الأمن.

رغم جميع ما يقوله لنا المتشائمون، لايزال العالم يزداد غنى. أما أوروبا فيمكن أن تعمها أزمة اليورو، والولايات المتحدة يمكن أن تقع في مأزق سياسي وانسحاب غير مسبوق من برامج التحفيز المالي، الأمر الذي يسبب بلاشك مشاكل في بلدان أخرى. ومع ذلك ستبقى الحكاية حول التصاعد المستمر في الناتج العالمي، ما يعمل على تغيير وجه فرص الحياة أمام المليارات من البشر. ويوجد الكثير من الفرص للغرب مثلما هي لبقية العالم.

إن إعادة توزيع القوة الاقتصادية إلى البلدان الناشئة تبشر بتحول أساسي آخر. فخلال عقدين من الزمان سيتحول أغلب العالم الذي لايزال فقيراً، إلى الطبقة الوسطى. المكسيك وإندونيسيا وفيتنام والبرازيل وتركيا وغيرها من البلدان لديها الآن موقع قوي في الحكاية التي كانت تدور في السابق حول الصين والهند. كذلك بدأ المستثمرون باكتشاف إفريقيا بالطريقة نفسها التي اكتشفوا بها في السابق آسيا وأميركا اللاتينية. وبحلول عام 2020، سينضم مليار مستهلك جديد إلى صفوف الطبقة الوسطى في هذه البلدان.

وتشير مسيرة الطبقة الوسطى الزاحفة في هذه البلدان إلى الاتجاه العام الضخم الثاني، وهو تزايد حاجة شعوب البلدان الصاعدة إلى حكومات يمكن محاسبتها. وبالفعل أخذ رعايا هذه البلدان يطالبون بأن يعامَلوا باعتبارهم مواطنين حقيقيين. لكن ربما يبدو التفاؤل بشأن الديمقراطية مناقضاً للحدس، بالنظر إلى تطورات الأحداث في سورية ومصر وليبيا والعراق التي جعلت من فكرة الربيع العربي أضحوكة. وبالمثل، فإن الصلابة التي تبديها الصين في مواجهة الاضطرابات الاقتصادية تعطي العون لأولئك الذين يجهرون بمحاسن الأنموذج البديل.

شعارات في الهواء

ومع ذلك مازالت التيارات تسير في الاتجاه الصحيح. وحتى مع غياب مطالب كبيرة بإنشاء مؤسسات على الطراز الغربي، إلا أننا شاهدنا سكاناً من الأثرياء الجدد يرفعون شعارات في الهواء، يطالبون فيها بحكم القانون والكرامة الإنسانية والحرية الفردية. لقد أصبح الفساد عدوهم الأول.

باستثناء مصر، لم تعد الانقلابات العسكرية هي الموضة. وتشهد أجزاء من إفريقيا تحولات سلمية نحو المؤسساتية، كما بدأت أميركا اللاتينية تتخلص من شعبوية الجناح اليساري في الحكم. ومن المؤكد أنه أمر له دلالته ألا يوجد أحد خائف أكثر من القيادة الصينية من حدوث فوضى سياسية واجتماعية بسبب الثراء المتزايد في البلاد.

أما الاتجاه العام الضخم الثالث، فيعتمد الترحيب به أو كرهه على المكان الذي يقف فيه الفرد. الولايات المتحدة تتراجع عن مسؤولياتها العالمية التي ألزمت بها نفسها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وبدأت القوة الأميركية تواجه منافسة متنامية، ولذلك أصبحت "القوة الفائقة" التي كانت تسبب كابوساً في الفترة الأخيرة لفرنسا، مجرد قوة عظمى.

ولا يوجد شيء يمكن أن يحل محل السلام الدولي الذي ترعاه الولايات المتحدة. والذي حدث بدلاً من ذلك هو أن التناظر الدقيق الذي ساد فترة الحرب الباردة والفترة الفاصلة القصيرة للأحادية القطبية، يحل محله الآن تشكيلة مفتتة من القوى العالمية.

وبحكم الظروف، وبحكم الاختيار كذلك، تآكلت قدرة أميركا ورغبتها في العمل ضامنا لكل شعوب العالم. وجاءت هذه الظروف على شكل تحديات لسيطرة الولايات المتحدة، وتمثلت في صعود الصين ودول أخرى وفي التكلفة العالية للدروس التي تعلمتها في العراق وأفغانستان. وانتهى الأمر إلى تعب من الحرب وضغوط في الميزانية، مع الاقتراب من الاكتفاء الذاتي في الطاقة. وكل ذلك قلص حماس أميركا لحل مشاكل الناس الآخرين.

أما الدرس الذي تعلمته من سورية، فهو أن الولايات المتحدة، باعتبارها قوة عظمى انتقائية، تطبق اختباراً أقسى للمصالح الوطنية قبل بذل الدم والمال في المغامرات الأجنبية. وقد أحس بأثر ذلك كثير من عواصم الدول حول العالم، حيث بدأ الحلفاء والخصوم يشككون في تصميم واشنطن على تأمين الوضع القائم في مواجهة الثقة المتزايدة بالنفس للقوى الصاعدة الجديدة. وتبقى الولايات المتحدة القوة الوحيدة المهمة في كل مكان، لكن لم تعد واشنطن تعتقد بأن كل مكان مهم لها. وكان من نتائج ذلك -وهو الاتجاه العام الضخم الرابع- التآكل المتزايد للنظام العالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية. وبدأت القوى الجيو-اقتصادية والجيوسياسية تضرب في اتجاهات مختلفة. وتفترض الأولى المزيد من التماسك، بينما تشهد الثانية تحطيماً لنظام الأمن القديم. والاندماج الاقتصادي مستمر بخطى سريعة، والروابط تتقدم وتتوسع، والبلدان الناشئة مليئة بالتجارة المتوسعة والاستثمارات بين الأسواق الناشئة الصاعدة. والآن أكثر من نصف تجارة آسيا يتم مع دول آسيوية. لكن على الوجه الآخر للعملة الجيوسياسية توجد شهية قليلة جداً من أجل المزيد من الحوكمة العالمية.

لم تعد الولايات المتحدة تعتبر أن هناك مصادفة سعيدة تجمع بين مصالحها والمصالح الدولية الأوسع، وهي الفرصة التي وفرت الدافع لبناء نظام ما بعد الحرب. وتخلت أوروبا عن فكرة تصدير أنموذجها الفريد في الاندماج إلى خارج منطقتها. والأمر الذي تفضله واشنطن الآن هو معيار التحالفات الثنائية على التحالفات المتعددة الأطراف، على نحو يجمع بين أصحاب العقلية المشتركة، الذي تفضله على الخطط الكبرى من أجل نظام جديد. أما بالنسبة للأسواق الناشئة، فإن معظمها يؤمن بوجهة نظر تفضل السيادة الوطنية على نحو يتحدى حقائق الاعتماد المتبادل بين البلدان.

تغيرات مناخية

والحرب في الشرق الأوسط، والتوتر في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي، والتغيرات المناخية، ومصادر الموارد- أي الضغوط من أجل النزاع في هذا العالم غير المرتب، على مرأى ومسمع من الجميع. وهو ما يأتي بنا إلى السؤال المهم: كيف ستتصرف الصين؟ هناك دلائل تشير إلى أن بكين تعتبر التشرذم في الأمن العالمي فرصة للنزعة التوسعية. لكن خلال هذه السنة، التي تصادف الذكرى المئوية للحرب التي أنهت عهداً رائعاً من العولمة، لابد أن تدرك الصين كذلك مخاطر التوسع المفرط.

*(فايننشيال تايمز)