لقد عادت اتفاقيات الاستثمار الدولية لتحتل عناوين الأخبار من جديد، فالولايات المتحدة تحاول فرض ميثاق استثماري قوي داخل اتفاقيتي "الشراكة" الكبيرتين المزعومتين، إحداهما تشكل جسراً بين ضفتي الأطلسي والأخرى تمتد عبر المحيط الهادئ، اللتين يجري التفاوض عليهما الآن، ولكن هناك معارضة متزايدة لمثل هذه التحركات.

Ad

فقد قررت جنوب إفريقيا وقف التجديد التلقائي لاتفاقيات الاستثمار التي وقعت عليها في أوائل فترة ما بعد الفصل العنصري، وأعلنت أنها تعتزم إنهاء بعضها، وقد أنهت الإكوادور وفنزويلا اتفاقياتهما بالفعل، وتقول الهند إنها سوف توقع على اتفاق استثمار مع الولايات المتحدة شريطة تغيير آلية تسوية المنازعات، ومن جانبها، لم تبرم البرازيل أي اتفاق من هذا القبيل قط.

والسبب وراء هذه المقاومة وجيه، حتى في الولايات المتحدة، اعترضت النقابات العمالية والمنظمات البيئية والصحية والتنموية غير الحكومية على الاتفاقيات التي تقترحها الولايات المتحدة.

إن هذه الاتفاقيات من شأنها أن تحد بدرجة كبيرة من قدرة حكومات البلدان النامية على حماية البيئة من شركات التعدين وغيرها؛ ومواطنيها من شركات التبغ التي تبيع عن علم منتج يسبب الموت والمرض؛ واقتصاداتها من المنتجات المالية المخربة التي لعبت دوراً كبيراً في الأزمة المالية العالمية عام 2008. وهي تمنع الحكومات حتى عن فرض ضوابط مؤقتة على ذلك النوع المزعزع للاستقرار من تدفقات رأس المال القصيرة الأجل والتي كثيراً ما عاثت فساداً في الأسواق المالية وأشعلت الأزمات في البلدان النامية. والواقع أن هذه الاتفاقيات كانت تستخدم لتحدي الإجراءات الحكومية من إعادة هيكلة الديون إلى العمل الإيجابي.

ويزعم مؤيدو هذه الاتفاقيات أنها مطلوبة لحماية حقوق الملكية، ولكن بعض البلدان مثل جنوب إفريقيا أصبح لديها بالفعل ضمانات دستورية قوية لحقوق الملكية، ولا يوجد سبب يجعلنا نتصور أن ملكيات الأجانب لابد أن تكون محمية بشكل أفضل من ملكيات المواطنين في أي دولة.

وعلاوة على ذلك، فإذا لم تكن الضمانات الدستورية كافية لإقناع المستثمرين بالتزام جنوب إفريقيا بحماية حقوق الملكية، فبوسع الأجانب أن يستفيدوا دوماً من التأمين ضد المصادرة الذي توفره وكالة ضمان الاستثمارات المتعددة الأطراف (والتي تشكل قسماً من البنك الدولي) أو المنظمات الوطنية العديدة التي توفر مثل هذا التأمين. (فبوسع الأميركيين على سبيل المثال أن يشتروا وثائق التأمين من مؤسسة الاستثمار الخاص عبر البحار).

بيد أن أولئك الذين يدعمون اتفاقيات الاستثمار لا تقلقهم حقاً مسألة حماية حقوق الملكية على أي حال، فالهدف الحقيقي يتلخص في تقييد قدرة الحكومات على تنظيم عمل الشركات وفرض الضرائب عليها- وهذا يعني تقييد قدرتها على فرض المسؤوليات، وليس دعم الحقوق فحسب. فالشركات تحاول بالسبل السرية الملتوية ـ من خلال اتفاقيات تجارية تم التفاوض عليها سراً ـ تحقيق ما لا يمكنها تحقيقه عن طريق عملية سياسية مفتوحة.

حتى فكرة ارتباط هذا الأمر بحماية الشركات الأجنبية ليست أكثر من خدعة: فالشركات التي تتخذ من الدولة (أ) مقراً لها تستطيع أن تؤسس شركات تابعة في الدولة (ب) لمقاضاة حكومة الدولة (أ). والمحاكم الأميركية، على سبيل المثال، تقضي بشكل مستمر بأن الشركات يجب ألا تعوضها عن خسارة الأرباح بسبب تغيير القواعد التنظيمية؛ ولكن بموجب اتفاقية الاستثمار النموذجية، تستطيع أي شركة أجنبية (أو شركة أميركية تعمل من خلال شركة تابعة أجنبية) أن تطالب بالتعويض.

والأمر الأشد سوءاً أن اتفاقيات الاستثمار تمكن الشركات من مقاضاة الحكومة بسبب أي تغييرات معقولة وعادلة تماماً للقواعد التنظيمية ـ عندما تنخفض أرباح شركة تبغ، على سبيل المثال، بسبب تقييد استخدام التبغ تنظيميا. وفي جنوب إفريقيا تستطيع أي شركة أن تقيم دعوى قضائية إذا ارتأت أن الحد الأدنى لأرباحها قد يتضرر بفعل برامج مصممة لمعالجة إرث العنصرية الرسمية.

هناك افتراض قديم يكفل "الحصانة السيادية": فالدول لا يمكن مقاضاتها إلا في ظروف محدودة للغاية. ولكن اتفاقيات الاستثمار كتلك التي تدعمها الولايات المتحدة تطالب البلدان النامية بالتخلي عن هذا الافتراض والسماح بالفصل في الدعاوى القضائية وفقاً لإجراءات لا ترقى بأي حال من الأحوال إلى تلك المتوقعة في ديمقراطيات القرن الحادي والعشرين. وقد أثبتت مثل هذه الإجراءات أنها متعسفة ومتقلبة، في غياب أي وسيلة نظامية للتوفيق بين الأحكام المتباينة الصادرة عن هيئات مختلفة، وفي حين يزعم الأنصار أن معاهدات الاستثمار تعمل على الحد من عدم اليقين، فقد أدى غموض هذه الاتفاقيات والتفسيرات المتضاربة لأحكامها إلى زيادة حالة عدم اليقين.

وقد دفعت الدول التي وقعت على مثل هذه الاتفاقيات ثمناً باهظا، فالعديد منها خضع لعدد هائل من الدعاوى القضائية، وتكبدت أموالاً طائلة. وهناك مطالبات بإلزام الدول باحترام العقود التي وقعت عليها حكومات سابقة غير ديمقراطية وفاسدة، حتى رغم التوصية الصادرة عن صندوق النقد الدولي وغيره من المنظمات المتعددة الأطراف بإلغاء مثل هذه العقود.

حتى عندما تربح حكومات البلدان النامية مثل هذه الدعاوى القضائية (وهو ما أصبح متكرراً بشكل كبير في الأعوام الخمسة عشر الماضية)، فإن تكاليف التقاضي ضخمة للغاية، والتأثير (المقصود) هنا يتلخص في تثبيط الجهود المشروعة التي تبذلها الحكومات من أجل حماية وتعزيز مصالح مواطنيها من خلال فرض القيود التنظيمية والضرائب وغير ذلك من المسؤوليات على الشركات.

وعلاوة على ذلك فإن الأدلة تؤكد أن الفوائد التي تعود على البلدان التي بلغت من الحماقة القدر الكافي للتوقيع على مثل هذه الاتفاقيات ضئيلة للغاية، هذا إن كان لها أي فوائد على الإطلاق، ففي مراجعة بجنوب إفريقيا، تبين أنها لم تتلق أي استثمارات كبيرة من الدول التي وقعت معها على اتفاقيات، ولكنها تلقت استثمارات كبيرة من تلك الدول التي لم توقع معها على اتفاقيات.

وليس من المستغرب إذن، بعد مراجعة دقيقة لمعاهدات الاستثمار، أن تقرر دولة جنوب إفريقيا أنها لا بد أن تعيد التفاوض على مثل هذه الاتفاقيات في أقل تقدير، وليس في هذا معاداة للاستثمار؛ بل هو يصب في مصلحة التنمية، وهو أمر بالغ الأهمية إذا كانت حكومة جنوب إفريقيا راغبة في تطبيق السياسات التي تخدم اقتصاد البلاد ومواطنيها على أفضل وجه.

وبتوضيح سبل الحماية التي توفرها التشريعات المحلية للمستثمرين، تدلل جنوب إفريقيا مرة أخرى ـ كما فعلت مراراً وتكراراً منذ تبنت دستورها الجديد في عام 1996 ـ على التزامها بسيادة القانون، والواقع أن اتفاقيات الاستثمار ذاتها هي التي تشكل أعظم تهديد لعملية صنع القرار الديمقراطي.

ينبغي لنا أن نهنئ جنوب إفريقيا، وإن المرء ليتمنى أن تحذو بلدان أخرى حذوها.

* جوزيف ستيغليتز | Joseph Stiglitz ، حائز جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، وأستاذ في جامعة كولومبيا، وكبير خبراء الاقتصاد في معهد روزفلت وأحدث مؤلفاته كتاب "ثمن التفاوت: كيف يعرض المجتمع المنقسم اليوم مستقبلنا للخطر".

«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»