في ظل الاهتمام المرضي بالأفلام الروائية الطويلة، والتدليل الزائد لنجومها، يسقط من وعي وإدراك القيمين على الحركة النقدية أن ثمة تياراً جديداً يتبلور في الأفق على يد جيل الشباب، الذي يسعى إلى التواجد على الساحة، من خلال أفكار لا تخلو من تمرد وشطط أحياناً، لكنها تحتاج إلى من يتابعها ويقرأ ما بين سطورها، وهي المهمة الملقاة على عاتق النقاد قبل غيرهم.

Ad

   ينطبق هذا الأمر على الفيلم الروائي القصير «دايرة» (13 دقيقة / 2012) قصة وإخراج كمال يوسف الملاخ، الذي كتب السيناريو مع الأردنية ديما مغالسة، وأهداه إلى عائلته، وهو إهداء له علاقة وطيدة بالموضوع الذي يرصد أزمة «سامي»، الذي عانى في طفولته من «ديكتاتورية» والده وقسوته. حتى إنه لم يجد سوى سمكة صغيرة في حوض زجاجي ليتخذ منها أنيساً في وحدته، لكن عصبية والده تسببت أيضاً في فقدان هذا الصديق. وببراعة يمكن تلمسها منذ الوهلة الأولى ترصد الكاميرا حفراً على رمال الشاطئ لسمكة كبيرة تلاحق سمكة صغيرة، وكأنها على وشك التهامها، بينما تتسلل يدٌ إلى «الكادر» لتمحو أثر السمكة الكبيرة، وسرعان ما نُدرك أن اليد للشاب «سامي» الذي يستجم على شاطئ البحر مع زوجته وابنه، لكن سعادته لا تكتمل، بعد أن يتذكر طفولته البائسة في كنف أبيه. ومن خلال «الفلاش باك» يُمرر المخرج رسالته التي يُعري فيها ظاهرة عدم التواصل بين الآباء والأبناء، ويُشير بطريقة غير مباشرة، إلى مشكلة التربية الخاطئة، التي يدفع الأبناء ثمنها؛ حيث العلاقة التي يشوبها الفتور، ولا تخلو من مد وجزر كأمواج البحر؛ فالعلاقة وثيقة (في الفيلم) بين «سامي» والبحر، سواء في حوض السمك الذي يقتنيه أو مجسم المركب الذي يحتفظ به في حجرته أو تلك اللوحة المعلقة على الحائط ، ويظهر فيها مركب يُقاوم أمواج البحر المتلاطمة، ومن ثم فمن الطبيعي أن يتذكر، وهو على مقربة من البحر، مأساته مع أب شوه شخصيته، ونزع عنه استقلاليته، وأم لا تملك من أمرها شيئاً، وهو ما يحاول أن يتجنبه وهو يربي ابنه. غير أن الفيلم بدا شديد القسوة على الأب، الذي تأثر سلباً من تطبيق سياسة الخصخصة، وما ترتب عليها من تسريح وطرد للعمال، فأصبح عاجزاً عن تدبير مصروفات مدرسة الابن، ما اضطره إلى إلحاقه بمدرسة أخرى، وهو سبب كاف في نظري لتبرير سلوكياته العصبية تجاه الابن والأم معاً، وإن كان لا يبرر فظاظته وخشونة معاملته لابنه، وكأن قلبه لا يعرف الطريق إلى الرحمة أو العاطفة، بينما الحقيقة، كما أكدها مشهد النهاية، أنه ما زال يملك في حافظته الجلدية صورة للابن والأم، ويوقد شمعة للعذراء عله يسترد ابنه الذي تمرد عليه. لكن الابن يُصر على تجاهله، ويرفض الرد على مكالمته الهاتفية، ويؤثر مداعبة ابنه على الشاطئ، وكأنه يُطوي صفحة الماضي، ويتفرغ للمستقبل!

«العشرة وسنينها» (2012) عنوان فيلم روائي قصير للمخرجة الشابة عبير المفتي، التي تحملت عبء موازنته من مالها الشخصي لأجل تحقيق حلمها في تقديم فيلم إنساني مرهف الحس عن «أبي سليمان»، الذي أوهمنا طوال الثمان دقائق، التي استغرقها عرض الفيلم على الشاشة، بأنه يعيش حواراً لا يخلو من غضب وضجر مع زوجته «إصلاح»، وغالباً ما ينتهي وهو يردد لاعناً «العشرة وسنينها»، قبل أن يفاجئنا في المشهد الأخير، وهو يقول بأسى قبل أن يغمض عينيه في الفراش: «وحشتيني يا إخلاص»؛ فالزوجة التي يحاورها طوال اليوم رحلت عن عالمه، بعدما غيبها الموت، وهي الحقيقة التي نُدركها بعد فاصل من الإيهام أحكمت المخرجة الشابة قبضتها عليه حتى أقنعتنا بتصديق بطلها، وهو يُطالب زوجته بأن تفتح باب الشقة، لأنه مشغول بإعداد طبق الفول الذي يُجيد صناعته، ثم يُضطر إلى فتح الباب بنفسه، بحجة أنها مشغولة بمتابعة أحداث المسلسل التركي، ونجح الإيهام أكثر بفعل صوت الزوجة الذي تردد في جنبات المكان، ما أوحى لنا أنها على قيد الحياة بالفعل، قبل أن نكتشف أنها مجرد هلاوس تنتاب الزوج، الذي لم يتحمل رحيلها بعد ما عاش معها 42 عاماً، ومن ثم يُعاني حالة من الإنكار. فالمخرجة أضفت بحسها الأنثوي جرعة من الشجن على الحدث، وأظهرت براعة في توظيف شريط الصوت (آذان الفجر، المنبه، صوت الإذاعية صفية المهندس وهي تقدم برنامجها الشهير «إلى ربات البيوت»)، لكنها تورطت في تحديد الحقبة التي تجري فيها الأحداث وتجاهلت أن التعميم يُضفي توجهاً إنسانياً أكبر على الفيلم، ولم يحالفها التوفيق في صياغة شارات النهاية في صورة «نعي في صفحة الوفيات»؛ فالبدعة ثقيلة الظل، وكست الفيلم بمسحة سوداوية لم يكن في حاجة إليها بعد جرعة الشجن الإنساني المقنن التي نجحت المخرجة الشابة في تقديمها!