جميلات ... في ملفات القضايا (18): قصورُ لا يسكنها الحب

نشر في 16-07-2014 | 00:02
آخر تحديث 16-07-2014 | 00:02
No Image Caption
ينظر بعض المارة إلى القصور المهيبة في العاصمة المصرية، بنظرة حسد واضحة للعيان، لكن القصتين اللتين نعرض لهما تكشفان، أن ثمة قصوراً مشيدة لا تعرف إلا قليلاً من الحب، تسكنها البغضاء، وتفرق ساكنيها الخيانة والغدر. {نبيلة} التي عرفت الحب أيام الفقر افتقدته عندما أصبحت سيدة القصر، لكن القدر كان أكثر رحمة بـ«نسرين} التي ألتقت بحبيبها الأول كمال بعد طول فراق، لكن كان على الأخير أن يدفع الثمن بطلب زوجته سماح الطلاق.
(1)

وقفت نبيلة في الشرفة تلوح لطفلها وهو يركب حافلة المدرسة مثلما تفعل كل صباح، تفتح قلبها وهي تشاهد صغيرها يرسم ابتسامة باهتة فوق شفتيه. كانت على يقين من أنه يتمنى لو حدثت المعجزة وأشارت إليه بالعودة إلى المنزل مجدداً، لكنها كانت تدوس على قلبها وتزرع في أعماقه حب التعليم والدراسة والالتزام. هي نفسها تمنت لو ظلّ بين أحضانها العمر كله، من دون أن يبتعد عنها لحظة واحدة، فهو عنوان النجاح السعيد في حياتها، والشيء الوحيد الذي خرجت به من الدنيا واستعذبت ألا يفارقها أبداً. بل تمنت لو لم ينقطع الحبل السري الذي كان يربطها به ويربطه بها قبل أن يخرج إلى الحياة.

كانت نسائم الصباح في مطلع هذا النهار مثل قصيدة تشدو بها الدنيا لتلطف من حرارة الحر القائظ، جلست نبيلة إلى مقعدها المطل على الحديقة مترامية الأطراف أمام قصرها، شجعتها رائحة الياسمين والفل والورد البلدي الأحمر على استنشاق الهواء والذكريات معاً، تعيش الآن في القصر الذي تمنته وحلمت به وضحت بعواطفها كي تصبح سيدته الأولى والأخيرة والوحيدة. ولم تبخل عليها الأيام بما تمنت، وهبتها القصر والحديقة والطفل، صارت زوجة وأماً وملكة داخل قصرها، لكن الدنيا نزعت منها حبيبها كما تنتزع العين من وجه صاحبها.

كان أمام نبيلة أن تختار بين الحب والقصر. الرجل الذي تحبه لم يكن غنياً، لكنه كان ثري العواطف، كانت تعرف أنه لو كان بيده أن يمنحها قصر بلقيس ما تردد، لو كان بيده أن يبني لها سكناً فوق السحاب ما تردد، لو كان بيده أن يلفها بأجمل قصائد الشعر ويغطيها بضوء القمر، وينثر عليها أرق العطور الفرنسية ما تردد. لكن الفارق كان كبيراً بين ما يتمناه الحبيب والواقع الذي يعيشه. أما الرجل الذي أرادها فكان القصر رهن بإشارته وطوع أمره، لن يجعلها سوى أميرة داخل هذا النعيم.

 وافقت نبيلة على التضحية والخيار الصعب، ضحت بمن أحبت وغرس فيها بذور الحب ثم صبر عليها حتى نضجت وأثمرت وفاح عبيرها يملأ الكون، ضحت بمن أحبها وصنعها على يديه واحترق في ليالي الشوق والحرمان والخصام والفراق. حتى ليالي الصلح كانت تحرقه لأنها تجعله يخاف أكثر من أي فراق قادم، اختارت من أرادها زوجة على حساب من أحبها، اختارت رجلا يزن النساء على الميزان القباني على حساب رجل كان يزنها فوق ميزان الذهب الحساس، فارق كبير بين رجل تختاره المرأة زوجاً ورجلا تحبه، مثلما هو الفارق بين أمنيات من أحبها وبين الواقع الذي كان يعيشه.

بات القصر تحت أمر نبيلة، لكن قلبها ظل تائهاً، فشل الرجل؛ الذي اختارته زوجاً، في أن يروضه أو يعيد إليه دقاته أو يستبدل بعض شرايينه الجافة ولو بكلمة حب. منذ عامين وصلا إلى الطريق المسدود، هو يعتبرها واحدة من نساء الدنيا بلا ميزة أو عنوان أو لقب، وهي لم تكن تحتاج إلى أكثر من كلمة حب أو لحظة دفء، كانت وجهة نظر «شاكر» بك أنه ما دام منحها القصر فعليها أن تكون خادمته وجاريته إذا لزم الأمر.

خيانة في القصر

كانت نبيلة تتذكر رسائل حمدي كلما يجرها الحنين إلى الماضي، كان حمدي يبدأ خطابه إليها بلقب «يا سيدة نساء الكون»، وفي رسائل أخرى يناديها بعاصمة الحب، لم ترد عليه فلم يكن أمامها سوى أن تصبر مهما كان للصبر حدود، فهي التي اختارت وعليها أن تدفع الفاتورة كاملة، ورضيت نبيلة بالهم. لكن الهم لم يرض بها فوجئت ذات ليلة بزوجها الطبيب الكبير يخونها مع خادمتها، في إحدى غرف القصر الكبير، الذي لم يعد يتسع لهما معاً.

طلبت منه أن يغادر البيت في هدوء وخلفه الخادمة. لم ينطق زوجها بكلمة سارع يلملم ملابسه ويجذب الخادمة من يدها قبل أن تنفعل زوجته وتفلت أعصابها وتفضحه، وبينما «شاكر» بك يعدو مسرعاً بحقيبته والخادمة خلفه، استوقفته نبيلة على باب القصر وهددته بأن توقظ الجيران وتجعله عبرة لمن يعتبر إن لم يلق عليها يمين الطلاق قبل أن يبتعد عن باب القصر، استدار «شاكر» بك وبكل الغيظ صاح في وجهها أنه سيؤدبها بطريقته الخاصة ويجعلها تندم حتى آخر نفس في حياتها، قالها ومضى وانقطعت أخباره حتى وصلها إعلان من المحكمة بأن زوجها أقام دعوى لنفي نسب ابنه إلى أمه، وأنه قدم إلى المحكمة شهادة طبية من أساتذة طب النساء قبل سنوات بأن زوجته عاقر لا تنجب أبداً، وأن الطفل الذي يعيش بينهما هو ثمرة خطيئته مع الخادمة قبل ثماني سنوات.

اهتزت نبيلة بعنف، لكنها كانت واثقة من أن السماء لن تحرمها من حبيبها الصغير، ومضت الأيام بنبيلة حتى وقفت أمام المحكمة، واعترفت بصحة الشهادات التي قدمها زوجها، وأنها ظلت عقيماً فترة طويلة ولكن الله قادر على ما يعجز عنه الطب، وقال الزوج إن على المحكمة أن تقدر الأدلة التي تحت يديها مع كل الاحترام للمعجزات، التي قد يدعيها البعض فالتقارير تؤكد أن عقم زوجته كان من النوع الذي يستحيل الشفاء منه. وردت نبيلة بأن زوجها طبيب وإذا كان قد ارتضى لنفسه أن يتهمها بإدعاء الأمومة لابنها، فلماذا قام بنفسه بقيد هذا الابن في كل الأوراق الرسمية على أنها أمه؟ ولماذا عاش معها كل هذه السنوات من دون أن يذكر الحقيقة؟ وأجاب الزوج بأنه كان يشفق عليها من جنون الحنين إلى الأمومة، وإذا كان قد شاركها هذا الخطأ فقد جاء ليصححه لتسترد الخادمة طفلها.

بعد أخذ ورد، رفضت المحكمة دعوى الزوج عملاً بالحديث النبوي الشريف «الولد للفراش وللعاهر الحجر»، ولأن الزوج هو الذي قام بنفسه بقيد الطفل في دفتر المواليد ثم قيده في عضوية النادي بعد أن قيده في بطاقته العائلية، أما الخادمة المدعية فعليها أن تتحمل وزر ما كان بينها وبين الطبيب، الذي كان في قمة الغضب بعد الحكم، وكانت زوجته تبك بشكل هيستيري. سألتها لماذا هي منهارة؟ قالت: «على سنوات عمري التي ضاعت مع ربيب الخادمات، سوف أرد له القصر واشتري شقة أعيش فيها مع وحيدي، وهذه ستكون جنتي الحقيقية ومصدر سعادتي الوحيد». تركتها وأن أتابعها وهي تغادر المحكمة كنت أعلم أنها سيدة القصر التي غادرته بملء إرادتها بعدما ذاقت فيه طعم الخيانة.

(2)

إذا كانت نبيلة غادرت القصر بإرادتها بعدما لم تعثر على الحب الذي بحثت عنه طويلاً، فإن قصة سماح كانت من طراز آخر، ربما تشترك مع نبيلة في السكن في أحد القصور الفارهة في أحد أرقى أحياء القاهرة، لكن في ما يخص التفاصيل فالأمر مختلف الاختلاف كله. لكن دعونا نسأل أولاً، هل يمكن أن تعيش امرأتان في قلب رجل واحد؟ هل يمكن أن تكون إحداهما رئته التي يتنفس بها، والأخرى قلبه الذي ينبض بالحياة؟ هل يمكن أن تكون إحداهما سفيراً للماضي الجميل والأخرى عنواناً للحاضر اللذيذ؟ أم أن المستقبل السعيد يعتمد على الاثنين معاً في وجدان هذا الرجل ومشاعره؟

تلك الأسئلة الشائكة تلخص قضية سماح وكمال أمام محكمة الأحوال الشخصية. الغريب والمؤسف أن غالبية قضايا الأحوال الشخصية تكون بدايتها عادة قصة حب رائعة، مثلما كانت الحال في قضية الحسناء طاغية الأنوثة سماح ورجل الأعمال الوسيم الثري كمال، حب جنوني جمع بين قلب خريجة الجامعة الأميركية التي تحظى بوظيفة مرموقة في إحدى السفارات الأجنبية، ورجل الأعمال الشاب الذي لا تتوقف طموحاته عند حد أو سقف فانطلق بسرعة الصاروخ بين رجال الاقتصاد حتى ظهرت سماح وانفتح أمامها قلبه فدخلت، وحكمت، وتحكمت، وسيطرت.

اتفقا على الزواج بعدما صارح كل منهما الآخر بالملف السري لحياته الشخصية والخاصة. لم تكن صفحة الماضي في حياة سماح تحمل غير نقطة ضعف وحيدة، تعلقها بأبيها الوزير الأسبق تعلقاً لم يسمح لحب آخر بالتسلل إلى قلبها، فهي الابنة الوحيدة والمدللة التي لم تشعر يوماً بالحاجة إلى رجل يكشف آبار أنوثتها وكنوز جمالها. أما كمال فلم يكن في حياته سوى حب وحيد، كاد أن يدمر حياته حينما رفض والده المليونير المعروف زواجه من نسرين، لتواضع المستوى الاجتماعي لعائلتها.

 كانت غلطة عمر كمال حينما استجاب لضغوط أسرته وترك مصر مهاجراً إلى أوروبا، لكن سرعان ما فارق أبوه الحياة بعد أربع سنوات، فعاد كمال إلى مصر يبحث عن نسرين التي كان حبها ما زال يجري في دمه، ذهب إلى منزلها فلم يجده ولم يجدها، أخبروه أنه تم إخلاء المنزل من سكانه بعد أن تصدعت جدرانه، الجيران في الحي الشعبي القديم يعرفون بعض العناوين الجديدة لسكان المنزل الحزين، وعناوين أخرى من بينها عنوان أسرة نسرين لم تعد معروفة.

بحث عنها كمال كالمجنون في مساكن الإيواء والمحافظة والمقابر والعشش الخشبية من دون جدوى، فقرر العودة إلى أوروبا واستثمار ميراثه هناك، لولا هذه الصدفة السعيدة التي جمعت بينه وبين سماح فكان الحب الكبير. وافقت سماح على الزواج من كمال بعدما صارحته بأنها بقدر شعورها بالاحترام لحبه لنسرين، إلا أنها تشعر بالغيرة منها، وعزاؤها الوحيد أنها أصبحت مجرد ذكرى في حياة الرجل الذي استبد بها هواه ووافقت أن تسلمه نفسها على يد المأذون.

بين نارين

أخيراً، عاش كمال وسماح تحت سقف واحد، زواج ناجح كان فاتحة خير على رجل الأعمال وتجارته واسمه الذي زاد لمعانه وبريقه، أنجبا ثلاث بنات وعاشت الأسرة أجمل سنوات عمرها داخل القصر الرائع في إحدى المدن الجديدة المحيطة في القاهرة، ومن حوله الحدائق الغناء وحمام سباحة أسطوري وشلالات صناعية جعلت المكان كأنه قرية طبيعية تضاف إلى حكايات «ألف ليلة وليلة»، لكن هل تبقى الدنيا على حال؟!

بعد 15 عاماً من الزواج، دخلت إحدى السكرتيرات على كمال في مكتبه وهي تلهث، لتقسم أنها شاهدت في الأمس ما لم تصدقه عيناها، واستطردت السكرتيرة تروي أنها كانت تشتري بعض المشتريات من شركة عمر أفندي، ففوجئت بمديرة الفرع وقد وضعت على مكتبها الصغير صورة لكمال داخل إطار صغير ظهره لزوار المكتب وواجهته أمام مقعد المديرة.

لم يجتهد كمال لمعرفة سر هذه الموظفة التي تحتفظ بصورته، دق قلبه بعنف، غادر مكتبه بسرعة، اتجه إلى فرع الشركة، وقف عن بعد يرقب ملامح مديرة الفرع، صدق توقعه، حبس دموعه، إنها نسرين بشحمها ولحمها. لم تستطع السنوات أن تطمس سحر شعرها الأسود الناعم الطويل ولا جمال ملامحها، وجهها يبدو كأنه البدر يطل على الدنيا من داخل هذا المكتب الصغير. الشعور نفسه الذي كان يسيطر عليه حينما كان يرى نسرين منذ 15 عاماً، الليل يسكن شعرها الفاحم وهو يسترسل خلف ظهرها، والنهار يشرق من وجهها من دون أن تستخدم مستحضرات التجميل.

الأمر الذي لم يعرفه كمال حتى الآن، هو كيفية تسرب أسراره إلى سماح، وكيف تابعت أدق تفاصيل اللقاء الأول بينه وبين نسرين، حتى تم زواجه منها سراً من دون علم سماح التي سارعت إلى محكمة الأحوال الشخصية تطلب الخلع، بعدما رفض كمال أن يطلقها، وأصرت أن تتحدث قبل محاميها، وكانت مرافعتها مفاجأة للقاضي وكمال وكل من حضر الجلسة، قالت سماح:

«أعترف أنني أحب زوجي حتى هذه اللحظة وأعترف أنه ما زال يحبني، لكنه يحب نسرين أيضاً، ويريد أن يعوضها سنوات عاشتها مقهورة ورفضت خلالها أن يلمسها رجل آخر حتى تموت عذراء أو يظهر كمال من جديد، وها قد قد ظهر، وصلتني أخبارهما، وحققتها بحياد تام لأنها قضيتي أنا أولاً وأخيراً مع احترامي لهيئة المحكمة، لهذا لم أطلب من كمال أن يطلق نسرين حتى لا أقتلها مرة أخرى، بعد أن قتلتها ظروف الماضي وحرمتها من كمال. أنا أعرف أنه يحتاج إليها قدر ما يحتاج إلي، هو بين نارين وأقدر له احترامه لمشاعري حتى النهاية. لكن شيئاً ما لم يعد في يدي، لقد كنت أتابع وأشاهد لقاءاتهما، مثلما كان الأميركيون يتابعون ويشاهدون انهيار برجي مركز التجارة العالمي في أحداث سبتمبر».

تابعت سماح وسط ذهول الحاضرين: «أعترف مجدداً أني أحب كمال بكل عواطف النساء فوق الأرض، لكنني أريد أن يستمر هذا الحب وأنا امرأة كاملة السيادة، فقد تعودت منذ صغري أن أشيائي لا يجب أن يشاركني فيها أحد، وأقسم لكم أنه حتى لو اختار كمال أن يطلق نسرين فلن أرجع إليه مرة أخرى، لأن شبح نسرين سيظل يطاردني مدى الحياة ويجعلني ضعيفة وأنا امرأة تكره الضعف والخوف والأشباح».

أصرت سماح على موقفها وفشلت محاولات كمال ونسرين لمصالحتها، وفي النهاية قضت لها المحكمة بالخلع. ترك لها كمال جزءاً كبيراً من ثروته وانتقل للحياة مع نسرين في الإسكندرية بعدما اختفى بريق عينيه، وعادت سماح إلى القصر لتعيش مع بناتها. لكن القصر لم يعد قصراً ولا الحدائق ولا الشلالات، شيء ما انكسر في قلب الزوجة الباكية.

back to top