«عمّا يُسأل»، رواية للكاتب الإنكليزي برسي هوارد نيوباي، الحائز وسام كومندر الإمبراطورية البريطانية 25 يونيو 1918 وكان روائيا ومديرا إذاعيا، وهو أول من فاز بجائزة البوكر عن روايته هذه عام 1969 وهي تستحق الجائزة بجدارة بالرغم من روح الملل والحيرة التي تبعثها في قارئها، إلا إنها تجبره على متابعة أحداثها.

Ad

أقول إنها تستحق الجائزة لأنها أتت بتقنية كتابية لم يأت بها أي كاتب من قبل، وهذا تقديري الخاص بحسب قراءاتي المتنوعة والمختلفة في كل أنواع الروايات التي لم أجد أسلوبا يماثلها بزمنها، وأجدها قد سبقت زمنها بأسلوب تقنيتها المتفرد، فالرواية تحكي عن محام شاب تستدعيه سيدة بريطانية عجوز ثرية مقيمة في مدينة بورسعيد المصرية، ليساعدها في حصر ونقل ممتلكات زوجها إيلي، اللبناني المسيحي، الذي قُتل في الشارع ولا يعرف من قتله، وهو جاء طمعا في ثروة العجوز، لكنه انتهى باتهامه كعميل وجاسوس اختلفت عليه الأحكام والآراء، ومن لحظة مغادرته لبريطانيا إلى لحظة وصوله إلى بورسعيد تتداخل الأحداث وتتشابك المعلومات وتُدخل القارئ في حالة تيه وتشتيت مقصودة كتقنية كتابية لاشتغال الأحداث عليها، مثل عقدة وفاة إيلي التي تتوارد في متاهات ترسم صورا مختلفة لوفاته، وتتداخل الوقائع ما بين الخيالات وبين الأحداث الحقيقية، فأحيانا تكون خارج حدثها، أو تدخل في حدث آخر تشارك مع زمن حدوثها مثل وضع مدينة بورسعيد قبل تأميم القناة، وبعد تأميمها وأجواء ذاك الوقت وانعكاسه على كل ما فيها، من العلاقات الدولية ومؤامراتها، واختبار قدرة المصريين على إدارة القناة، ومن ثمة محاولة قصفها واحتلال إسرائيل لغزة، وأحوال البشر فيها وطريقة تعاملهم، وشكل المدينة الجغرافي والطبيعي التي اختلفت عما هي عليه الآن، وصف تام لما حدث في ذلك الزمن وتضفيره في حكاية موت إيلي الغامضة، وتمكن الكاتب من وصف ما حدث من العدوان الثلاثي على مصر بسبب معايشته لذلك العدوان الذي وقع على مصر حيث كان يخدم في الصحراء المصرية ضمن وحدته في الجيش البريطاني.

هذه الرواية لو قُرئت في زمن حدوث العدوان الثلاثي على مصر لأشعلت حرائق في مشاعر قرائها، لحساسية موضوعها السياسي والإنساني، لكن أن تقرأ رواية على مسافة بعيدة من زمن حدوثها يلغي التفاعل العاطفي معها.

كتابة تجاوزت انفعالاتها واتت بصورة هادئة باردة ومتأملة الأحداث عن بعد، حتى انها تجاوزت هرولة الحبكة ومفاجأتها، فالمفاجآت وردت بسياق هادئ مطفأ، كأنها تُرمى بغير قصد في درب القارئ ولا تقوده إليها بل تأتيه مصادفة لتغير وتشكك وتكسر كل قناعاته وتوقعاته.

وعادة يسعى أغلب الكتاب أن يستغل الموقف الدرامي ويصعده حتى يكشف عن اللقى الثمينة والسر الذي يحتفظ به، لكن هذا الكاتب لا ثمين لديه فهو يعمل على كسر التوقعات والاحتمالات التي يضعها القارئ في ذهنه وهو يتابع قراءته، ويلغي له أهمية الاكتشافات بحيث يدحرج له المعلومات والأسرار بهدوء وكأنها غير مهمة.

كتابة هادئة غريبة تحلل في برود ثم تشكك في ما حللته ثم تعيد تأكيده بصورة أخرى، لكنها سرعان ما تشكك فيما قالته، بحيث تهز يقين القارئ بممكنات مختلفة وكلها قابلة للتحقق، لكنها تفتح أبوابا متعددة لوقائع ونهايات مختلفة، فأيهما حصل؟

كلها قابلة للحصول فإيلي قد يكون قُتل ونقلته زوجته في قارب عبر البحر ليدفن في لبنان، وإيلي قد يكون دفن في كنيسة قبطية في بورسعيد، وإيلي قد يكون رُمي في البحر من قبل البحرية البريطانية بعدما أخرجه المحامي من قبره، وإيلي قد يكون في جزيرة البط المهجورة، احتمالات عديدة لموت إيلي مثلها مثل احتمالات السلاح أو الذهب المخبأ في تابوته الذي قد يكون نُهب أو لم يوجد أصلا أو تمت سرقته من المحامي.

هذه رواية سبقت زمنها، ففي تقنياتها شبه ما مع تقنية روايات هاروكي موراكامي، إلا أنه قد سبقه بقرن من الزمان، وأن حكاياته جائزة وممكنة وقابلة للحدوث ولا تنتهي في سكة سد مثل روايات موراكامي.

فشكرا لدار كلمة على اختياراتها المميزة.