المشّاؤون

نشر في 15-07-2014
آخر تحديث 15-07-2014 | 00:01
 د. نجمة إدريس أعتقد والله أعلم أننا من أكثر الشعوب تطبّعاً برياضة المشي. يشهد على ذلك العناية بإعداد مسارات خاصة للممارسة الرياضة في كل منطقة سكنية وتزويدها بالمقاعد والأدوات الرياضة ومشارب المياه، والاعتناء بتشجيرها وتظليلها ما أمكن. وهذا الاشتغال بإعداد مضمار للمشي والجري والتنزه في كل منطقة قلما نجده في بلدان أخرى حتى السياحية منها، الأمر الذي يستوجب الامتنان لهذه الظاهرة الحضارية والصحية.

لطالما اعتبرتُ رياضة المشي رياضة روحية أكثر منها رياضة بدنية. فالانطلاق على الأقدام في تلك الطرق الممتدة على مشارف المناطق السكنية الهادئة، أشبه بالانطلاق نحو سكينة نفسية وتفرّد عذب، أو أشبه برحلة تأمّل وصلاة.

ولعل هذا الشعور الروحاني يزداد شفافية في المواسم المعتدلة الطقس وعلى مشارف الشتاء، حين لا تقطع متعة الانطلاق غير أصوات بعيدة لعصفور شارد أو حفيف غصن أو خشخشة لأوراق بعثرها الخريف تحت أقدامنا، حتى أصوات السيارات المنطلقة على الخط السريع، تبدو على البعيد الأبعد وكأنها أصوات أمواج بحر أو هدير شلالات نائية. ويمكن لمن يفتقد هذه الأجواء في الصيف اللاهب أن يستبدل رحاب المولات التجارية الفسيحة بمضمار المشي في الهواء الطلق، أو يستأنف هذه الرياضة في مواطن السياحة الصيفية التي يقصدها.

حول الحديث عن فلسفة المشي أورد الزميل أحمد الصراف في زاويته في جريدة القبس اقتباساً عن مدرس الفلسفة الفرنسي فريدريك غرو، جاء فيه أن المشي هو هروب من الهوية ونوع من الصفاء النفسي الذي يأتي من اتباع درب ما، وهو نوع من الخلوة لساعات مع النفس، وأن المشي يوميا ليس وسيلة للابتعاد عن موقع أو مكان العمل أو البيت، فحسب، بل هو أمر جوهري ايضا لأنه يقوم بتحريرنا من فضاءات محصورة ومن تسارع نبض الحياة، كما أن اعتياد المشي يعطي الدافع لنسيان أمور غير مهمة، والانشغال عنها بالتفكير الإيجابي، فمن المعروف أن الكثير من المفكرين والأدباء قد توصلوا إلى إلهامات وأفكار خلاقة أثناء المشي.

ولا تقف مسألة الربط بين المشي والفلسفة عند هذا الحد، اذ يذكّرنا ذلك بما يُسمى بالفلسفة المشّائية أو فلسفة المشّائين، وهو اتجاه فلسفي سار أصحابه على فلسفة أرسطو (348 ق. م- 322 ق. م)، وعرفوا باسم المشائيين. وقد قيل ان أرسطو كان بطبعه قلقاً لا يكف عن الحركة ولا يستطيع ان يجلس هادئا. واذا حاضر تلاميذه، وعلى الاخص حين يقل عددهم في الصباح، فانه يذرع الارض غدوا ورواحا معهم بين الاعمدة، ويشرح لهم آراءه ويجيب عن اسئلتهم، وهكذا أطلقت تسمية "مدرسة المشائين"، وأصبحت المشائية بعد ذلك اصطلاحا للفكر الأرسطي ومن شايعه في التفلسف، سواء من تلقى عليه علوم الفلسفة مباشرة  أو من تتلمذ على كتبه إما بالدراسة فقط، أو بالدراسة والشرح والتعليق.

وبالعودة إلى مشّائينا من محبي هذه الرياضة، تبقى واجهة البحر أو (الكورنيش) الوجهة الأكثر شعبية والأجمل منظراً والألطف طقساً والأشد جذباً للمرتادين. ويمكن للكورنيش وروّاده أن يكونوا مصدراً للإلهام حين يجيء الإلهام:

يطأون العصرَ / بأحذيتهم الرياضيةِ / خِفافاً

يُشجّرُ برتقال الشّفق / سراويلهم الفضفاضة / غَسَقاً

يعبُرون خطَّ البنفسجِ / بقمصانهم القطنيةِ / واسعة الأكمام / مساءً

يطيروووووون

يصغرُ الكورنيش / السيارات / التعاونيات

تصغرُ المدينة

تتلاااااااااشى

back to top