يرى البعض في ما يعرف باسم ثورات الربيع العربي مجرد فتنة، هل تتفق مع هذا الرأي؟

Ad

مفهوم الثورة كما عرفه خبراء اللسانيات العرب يرتبط بالهياج والانتشار والفجائية والتغيير الجذري عملاً بقوله تعالى: «إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ» (الرعد: 11)، ويتجه مفهوم الثورة إلى تغيير النظام السياسي. ولا بد من أن نعي أن مفهوم «الثورة» لم يكن شائعاً في التراث الإسلامي، ولا في أدبياتنا الفكرية والسياسية و{الثورة»، تعني مرحلةً مغايرةً لما كان قائماً، وانقطاعاً تامّاً عما كان موجوداً.

 ولا يعني هذا الانقطاع تغيير النظام الحاكم فحسب، بل تغيير القيم والمفاهيم والأفكار السائدة التي ثار الناس في وجودها، وهذا الأمر المهم لم يكن موجوداً أبداً في تاريخنا الإسلامي، فلم يحدث قط أن ثار الناس على حاكم؛ أو بتعبير التراث الإسلامي خرجوا عليه أو خلعوا بيعته من أعناقهم، ومع العهد الحديث مع بدء ما عرف اصطلاحاً بالربيع العربي، لم يخرج الناس ضد حكامهم بسبب خروج هؤلاء على القيم والمفاهيم الإسلامية.

أما القول إن هذه الثورات فتنة وقعت شعوب المنطقة في شرها، فذلك من الظلم لثورات الشعوب التي تنشد الحرية والعدالة. ولا بد من أن نتذكر جميعاً أن التاريخ أكد لنا أن الثورات لا تستقرّ بين ليلة وضحاها، ولا يتمّ الانتقال الفعلي بسهولة حتى وإن استتبّ الأمر للثوّار ولمشيئة التغيير، بل كثيراً ما شهدت الثورات عليها ثورات من داخلها، وانقلب الثوّار بعضهم على بعض، وكم من ثورة أكلت أبناءها.

لكن انتشار التطرّف والطائفيّة هو ما دعا البعض إلى إطلاق وصف الفتنة على الثورات حيث يختلط الصالح بالطالح، ولا يعود في الإمكان فرز الفاسدين من الناصعين، وتمييز المخلصين من المندسّين. وما يحصل في بعض العواصم العربيّة جعل كثيرين يطرحون مصطلح الفتنة بديلا عن مصطلح الثورة، ولكننا في هذا الإطار لا نحتاج إلا إلى مواجهة المتشددين من كل اتجاه، سواء العلمانيين أو المتدينين ونوقف محاولات افتعالهم أحداثاً طائفيّة مشبوهة، التي يريدون بها أن ينسفوا الأحلام والأفراح، وأن يدمّروا كل ما أنجزه الربيع العربي، ونعمل على أن تكون تلك الثورات بمثابة منحة إلهية لهذا العالم الغارق في الخمول بارقة أمل بانتصار عظيم، وبتغييرات باهرة.

لكن ثمة من يقول إن الخروج على الحاكم في الإسلام فتنة؟

عزل الحاكم الفاسد بالطرق السلمية ليس خروجاً على الحاكم، لأن الخروج على الحاكم المسلم هو الخروج المسلح، أما عزله بالطرق السلمية مثل الاعتصامات والعصيان المدني والتظاهرات السلمية فليس خروجاً عليه, بل هو من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المجمع عليه، حيث قال ابن تيمية (الذي يستند إليه من يفتون بحرمة الخروج على الحاكم): {ولهذا كان مذهب أهل الحديث ترك الخروج بالقتال على الملوك البغاة والصبر على ظلمهم إلى أن يستريح بر، أو يستراح من فاجر}، وهذا يؤكد أن الخروج على الحاكم هو الخروج المسلح الذي يؤدي إلى قتال واقتتال، وهذا ما قصده من تكلم من أهل العلم في تحريم الخروج على الحاكم الظالم فهو الخروج المسلح. والأحاديث التي يستدل بها على الصبر على جور الحكام، تشير بوضوح إلى قضية السيف والقتال فيقول رسول الله: {خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قيل يا رسول الله: أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: لا... ما أقاموا فيكم الصلاة}. ويقول أيضاً: {ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برء، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم؟، قال: لا ما صلوا}.

فقد كان الخروج المعهود على الحكام قديماً، هو الخروج عليهم بالسلاح والقتال أما الذي يحدث في هذه العصور من تظاهرات واعتصامات، فهو مجرد وسيلة مستحدثة من وسائل التعبير وهؤلاء الذين خرجوا في ثورات الربيع العربي لم يحملوا سلاحاً، ولم يلجأوا إلى استخدام العنف فخروج أولئك المتظاهرين هو مجرد تعبير سلمي عن آرائهم، ومن كانت نيته من الخروج إنكار منكر بلسانه، فهو مأجور إن شاء الله، لأن الرسول يقول: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان}.    

لماذا تطل فتنة الحروب الأهلية على الساحة العربية اليوم؟

السبب في ذلك دعاة الفتنة؛ الذين شوهوا الساحة بعشرات الفتاوى، التي تحض الناس على رفع السلاح في وجه بعضهم البعض، وإلا بماذا نصف إفتاء بعضهم بمشروعية قتل المعارضين لعزل هذا الرئيس، ليأتي الموتورون من الطرف الآخر ويبيحون استهداف المعارضين، وهكذا نشب لدينا فريقان، لكل فريق فتاويه الخاصة، وأنا لا أعرف كيف يكون مسلماً بأي صورة من الصور، من يدعو إلى قتل مسلم آخر أو إنسان آخر، ودونما ذرّة من دين أو ضمير أو عقل، أفلم يقرأ أو يسمع قول «الإسلام الحنيف»، في القرآن: «من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا» (المائدة: 32). لذلك كله فإن فتنة الحرب الأهلية في العالم العربي، لن تتوقف حتى يتوقف سيل الفتاوى التكفيرية في كل مكان سواء كانت سياسية أو طائفية أو مذهبية.

كيف نوقف فتاوى الفتنة من وجهة نظرك؟

باختصار شديد، نحن بحاجة إلى قانون حاسم يمنع التجرؤ على الفتوى لمواجهة أدعياء الإفتاء. لا بد من وجود قانون يوقف من يفتي بغير علم، ويتسبب في الاحتقان الذي انتشر في العالم الإسلامي من السنغال وحتى إندونيسيا، ولا بد على الناحية الأخرى من أن نتكاتف جميعاً ونواجه من يخرجون على الأمة وعلى الدولة بالسلاح، ونقول كلمة الحق في وجوههم. نتذكر جميعاً قوله تعالى: «ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين» (آل عمران: 140). وهكذا لا بد أن نتكاتف في وجه كل شارد، ونردع من يخرجون على القانون والدولة.

يرى البعض أننا في حاجة إلى مصالحة شاملة تعم الأمة الإسلامية كلها لوأد الفتن في مهدها، فهل الأمة مهيأة لتلك المصالحة؟

لا أظن أن أحداً لديه القدرة على إتمام المصالحة الشاملة في أي مجتمع من مجتمعاتنا العربية والإسلامية، خصوصاً بعدما تورط البعض للأسف الشديد في حمل السلاح، وأسال الدماء وروع الأمنين، ولم يعد لديه الاستعداد للاستجابة لصوت الحكمة وصوت العقل، وترك أجواء الفتنة تسيطر على حواسه وجوانحه، وهو في هذه الحالة لا يمكن مواجهته إلا بالسلاح. أما من لم يتورط في الدم فمن الممكن أن نحاوره ونقنعه عسى أن يستجيب للنصح والإرشاد.

بماذا تصف انتشار آفة التكفير في الدول كافة التي شهدت ثورة من ثورات الربيع العربي؟

التكفير آفة كما قلت؛ ولكنها لا تظهر في المجتمعات التي تشهد ثورات فحسب، بل هي آفة تاريخية تظهر حتى في الدول العلمانية التي تتميز ببعد شعوبها عن الدين، ولنا في الغرب المثل؛ حيث تنتشر الجماعات المسيحية المتطرفة، التي تكفر كل من يخالفها في الرأي. وللأسف، فقد انتشرت آفة التكفير لدينا في عالمنا العربي، وأخذت حيزاً كبيراً، بسبب ما تمر به الأمة من مرحلة انتقالية، فالأمة أصبحت تعاني من الشقاق والاختلاف، وفي ظل هذا الشقاق، وجد كل طرف في تكفير الأطراف الأخرى وسيلته الوحيدة للانتصار. هنا لا بد من أن يهب علماء الفقه والشريعة ويعملون على وأد تلك الآفة في مهدها، والتأكيد على أنهم هم فحسب المؤهلون لحفظ الشريعة وحماية أركانها، وليس أدعياء العلم الذين انشغلوا بالسياسة ويحاولون إلباس أقوالهم السياسية رداء الدين.

تكفير البعض للشعوب والسلطات بعد الثورة هو محاولة لنشر الفتنة في أوصال مجتمعاتنا، ولا بد من التصدي لتلك المحاولات بمنتهى القوة والحسم، وهذا يتم بسعي العلماء إلى توحيد الناس، ونبذ الفرقة ومخاطبة الذين لم تتلطخ أيديهم بالدماء حتى يعودوا إلى رشدهم.

هل من الممكن أن نطلق على رسالات الأنبياء مفهوم الثورة باعتبارها كانت تمثل ثورات على الجهل والفقر؟

لا أظن أن رسالات الأنبياء كانت تمثل الثورة بمعناها الحرفي، ولكنها من وجهة نظري كانت تمثل الإصلاح أكثر مع أنها كانت التغيير الأشمل والأعمق للواقع والفكر الذي بُعثوا فيه، فقد كانت تغييراً جذريّاً على مستوى العقيدة والأخلاق والمفاهيم، ومع ذلك لم توصف بأنها ثورة كما جاء على لسان سيدنا شعيب: «إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ» (هود: 88)، لأن هذه الدعوات، رغم أنها حملت تغييراً جذريّاً، فإنها اتسمت بالتدرُّج والهدوء والمرحلية والسِّلْمِية وهي المعاني التي لا يعرفها المعنى اللغوي للثورة، فضلاً عن المعنى المعاصر لها في العلوم الغربية.

بعيداً عن الثورات، لماذا يصنف البعض أي محاولة للتجديد في الفقه الإسلامي بأنها فتنة؟

التجديد الفقهي ضرورة من ضروريات الدين، فرسول الله قال: «إن الله يبعث على رأس كل مئة عام من يصلح لهذه الأمة أمر دينها»، والإسلام جاء بعموميات حتى يمنح الناس فرصة تكييف أوضاعهم حسب الزمان والمكان، فعلى سبيل المثال يقول الله تعالى: «وأحل الله البيع وحرم الربا» (البقرة: 275)، فما البيع الذي حلله الله؟! هنا يأتي دور العلماء، فلو نظرنا في كتب الفقه القديمة سنجد تعريفهم للبيع قد لا يتناسب مع وضعنا الحالي. مثلاً، ربما لا تحتاج في مكان ما إلى بائع يبيع لك بل تتعامل مع آلة تضع فيها المال، لتأخذ السلعة التي تريدها، فلو طبقنا ما جاء في الكتب الفقهية القديمة على تلك العملية سنفاجأ بأن هذا البيع باطل، وفق أحكام الفقهاء القدامى. وقس على هذا أموراً عدة، لأن الأمور تتغير بسرعة والعلم يتقدم بقوة ودخلت في حياة الناس مستحدثات كثيرة، من بينها على سبيل المثال قضية زراعة الأعضاء وتأجير الأرحام، فلن نجد لتلك القضايا ذكراً في آراء الفقهاء القدامى. كذلك الأمر بالنسبة إلى عقود التوريد وبطاقات الائتمان وعقود الصيانة، وغيرها. لهذا، لا بد من أن يجلس العلماء معاً، في المجامع الفقهية، ولا مانع من الاستعانة بالعلماء والخبراء كل في تخصصه الحياتي، يقدموا شرحاً وافياًَ للعلماء كي يكونوا قادرين على تكييف الحكم الفقهي على مستجدات العصر، فمن دون التجديد الفقهي لن نستطيع القول إن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان.

هل نحن بحاجة إلى فقه الفتنة والأزمات في ظل الفترة التي نعيشها؟

نعم وهذا أمر ليس مستحدثاً. من أصول النظر في فقه الأزمات والفتن، النظر إلى فقه الاجتماع والاختلاف، فالاجتماع مطلوب، والفرقة والاختلاف أمر مذموم. لذلك فالاجتماع مطلوب دائماً، لكن في حال الأمن لا نشعر بأهميته لعدم ظهور بوادر الاختلاف والفُرقة. فالحال أن الناس مجتمعون ولا يوجد من الأقوال ولا من الأعمال ما سيؤدي إلى الاختلاف والفرقة والشتات وعدم اجتماع الكلمة. لكن في وقت الأزمات والفتن لا بد من أن يحقق المجتمع مراد الله جل وعلا؛ لأنه أراد بالشريعة نفسها أن تكون مصدراً لاجتماع كلمة الناس وعدم التفرق، فمن مقاصد الشريعة في نزولها وفي تشريعاتها وفي تفصيلاتها أن يجتمع الناس وألا يتفرقوا وألا تكون بينهم خصومات، سواء في الشأن العام أو حتى في الأمور الفقهية؛ وهنا ما دام أنه يؤدي إلى الخصومة فلا بد من أن يُسد الباب.

في سطور

ولد الدكتور نصر فريد واصل في مارس عام 1937 في قرية ميت بدر حلاوة التابعة لمركز سمنود في محافظة الغربية في مصر، وعمل أستاذاً للدراسات العليا ورئيساً لقسم الفقه المقارن في كلية الشريعة والقانون في جامعة «الأزهر»، وانتدب لشغل منصب عميد كلية الشريعة والقانون في الدقهلية منذ عام 1995 حتى صدر القرار الجمهوري بتعيينه مفتياً للديار المصرية في 11 نوفمبر 1996، ويقال إن سبب إقالته من منصبه عام  2002 هو رفضه لضغوط من نظام الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك لإصدار فتوى بشأن إجازة تصدير الغاز للاحتلال أثناء توليه منصب مفتي الديار المصرية لتتم إقالته بعدها بفترة وجيزة.

وواصل الحاصل على درجة الدكتوراه في الفقه المقارن في عام 1972، بدأ العمل في النيابة العامة عام 1966، ثم عمل مدرساً فأستاذاً في قسم الفقه في جامعة الأزهر، ثم رئيساً للقسم، قبل أن يُعار لجامعة صنعاء، ثم للجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية السعوديتين، كأستاذ للفقه المقارن. بعد ذلك عمل عميداً لكلية الشريعة والقانون في أسيوط، في الفترة من عام 1981 حتى عام 1983، وصدر له أكثر من عشرين كتاباً وبحثاً علمياً ودراسات في الشريعة الإسلامية والفقه والتشريع.