تكتيكات راعي الكرملين ومناوراته تصوغ قوانين اللعبة!

نشر في 17-03-2014
آخر تحديث 17-03-2014 | 00:01
تذكروا أن موسكو ادعت في أغسطس 2008 أن ألفي مدني قُتلوا في أوسيتيا الجنوبية، منطقة من جورجيا أرسلت روسيا جنودها إليها وما زالت تحتفظ بوجود عسكري فيها، لكن محققين حقوقيين اكتشفوا لاحقاً أن 44 مدنياً فقط لقوا حتفهم.
 واشنطن بوست لا شك أن التصريحات المتكررة، التي اعتبرت غزو فلاديمير بوتين القرم نوعاً من "سلوك القرن التاسع عشر"، لا تعكس بوضوح فداحة هذه التطورات، فلم يخطئ بوتين في حساباته، بل يعمل على إعادة تعريف الحرب في القرن الحادي والعشرين.

قبل أن يجتاح بوتين جورجيا في أغسطس عام 2008، أمضى أشهراً في نشر آلية الحرب التقليدية: فأعاد بناء سكك الحديد والطرق السريعة لنقل الدبابات وآلاف الجنود. كذلك أرسل طائراته الحربية لتنفذ غارات تهديد فوق الأراضي الجورجية، واستخدم الدعاية الحكومية ليشوّه الحقيقة عمّن بدأ الحرب.

لكن بوتين ما عاد اليوم ملزماً بقيود الحروب التقليدية بين الأمم، فقد أثّرت سنوات من المواجهة مع الانفصاليين، المجاهدين، والإرهابيين، واللاعبين المستقلين في طريقة تفكيره. نتيجة لذلك، أطلق في القرم حرباً مفاجئة، وسريعة، وخفية، حرباً ستتحول على الأرجح إلى النمط المعتمد في المستقبل.

أولاً، ظهر الجيش المختبئ فجأة. كانت مجموعات خاصة من المقاتلين جاهزة لإثارة الشغب والقتال في الشوارع، ويبدو أن هذه القوات، التي أنكر بوتين وجودها، لا تلتزم بالقوانين، والقواعد، والمعاهدات التي تحكم الحروب عادةً، مما شكّل تجاهله الأكبر للنظام الدولي حتى اليوم. مثّل هؤلاء المقاتلون نوعاً هجيناً جديداً من الجنود والإرهابيين الذين اعتمد عليهم بوتين: وجوه مخبأة، وقيادة مخفية، وأوامر سرية، وكل هذا بغية تحقيق أهداف الدولة بالتأكيد، ولا شك أن غياب قائد محدد عطّل رد فعل المجتمع الدولي: فما من جنرال يمكن التفاوض معه بشأن وقف إطلاق النار أو الاستسلام. وإذا انتشرت أعمال العنف، فما من سبيل إلى منعها، باستثناء وقف كل مقاتل.

بالإضافة إلى ذلك، تشكّل هذه القوات غير النظامية خطراً نفسياً يهدد السكان المحليين والأوكرانيين عموماً، الذين لا يعلمون المواضع الأخرى التي يختبئ فيها هذا الجيش.

يقوم المكوّن الثاني في حرب بوتين هذه في القرن الحادي والعشرين على شبكة الإنترنت، ولا تكفي عبارة "دعاية كاذبة" لتصف الطبيعة الخطرة والسامة لحرب المعلومات هذه. ساهمت المناورات عبر الإنترنت في الترويج بفاعلية لهدف بوتين الأخير: قطع وسائل التواصل التي يملكها المشرعون والحكم، في حين يستمر تدفق المعلومات الكاذبة باللغة الروسية، هذه المعلومات التي تشيد بالحرب الجديدة على "الفاشية".

إذاً، فبرك بوتين نسخة من الواقع بغية نشر الرواية التي يحتاج إليها لزعزعة أوكرانيا. قرر هذا الرئيس الروسي أن ثمة حاجة إلى انقسام إثني-لغوي يساعده في تحقيق أهدافه، ومن ثم وزّع الأدوار. نتيجة لذلك، تُطرح هذه الرواية اليوم على مئات الجبهات وتُنشَر في وسائل التواصل الاجتماعي، متحوّلةً إلى بث حي افتراضي عن أعذار بوتين بشأن القمع، والاضطهاد، والخوف في أوكرانيا الناطقة بالروسية.

لا يؤدي الواقع أي دور في كل هذا، فقد نشرت وكالة إيتار تاس الروسية أخيراً رواية نقلتها عنها "فوربس" وغيرها من المنشورات، ومفادها أن 675 ألف أوكراني طلبوا اللجوء السياسي في روسيا، تذكروا أن موسكو ادعت في أغسطس عام 2008 أن ألفي مدني قُتلوا في أوسيتيا الجنوبية، منطقة من جورجيا أرسلت روسيا جنودها إليها وما زالت تحتفظ بوجود عسكري فيها. لكن محققي منظمة مراقبة حقوق الإنسان اكتشفوا لاحقاً أن 44 مدنياً فقط لقوا حتفهم، لكن وكالات الإعلام الغربية غطت رواية بوتين الكاذبة كما لو أنها تستحق المناقشة، فساهم تشويه الحقائق هذا وما نجم عنه من خوف في إبطاء ردود الفعل تجاه أعمال بوتين وقوّض تصميم مَن يستطيعون الوقوف في وجهه.

ثالثاً، يستخدم بوتين الأسواق المالية كأداة مثيرة للجدل. بما أن ثروته االشخصية تبلغ عشرات المليارات، حسبما تشير بعض التقارير، يفهم بوتين جيداً القوة المالية، فقد تمكنت روسيا بفضل ثروتها من عقد "الشراكات" بالاستناد إلى المصالح المالية المتبادلة، ومن المؤكد أن بوتين يعتمد على هذه الشبكة من العلاقات. يألف بوتين جيداً هذه المناورات، ففي عام 2007، شلّ هجومٌ عبر الإنترنت أسواق إستونيا المالية طوال أيام بعد خلاف مع روسيا، وبعد تراجع الأسواق الروسية الأسبوع الماضي بأكثر من 10% وسط الخوف من الحرب، عقد بوتين مؤتمراً صحافياً هدفه طمأنة المستثمرين. تخيلوا مقدار المال الذي خسره ثم استعاده بين الاثنين والأربعاء. وعندما يتقن بوتين عملية التلاعب بالأسواق هذه، يستطيع أن يزيد ثروته الشخصية ويغذي شبكة المال التي يعتقد أنها تجعله محصناً، فهذا في رأيه سلاح شامل غير مرئي. إذاً، تولّد هذه المناورات الفوضى التي يتحكم فيها بوتين، علماً أن هذا الوضع القائم يتيح له التأثير في سياسات أوكرانيا على كل الصعد.

يعود جزء من غزو بوتين للقرم إلى واقع أنه يشكّل طريقة محدودة المخاطر اختبر من خلالها هذا الرئيس الروسي أسلوبه الجديد في الحرب، فبالإضافة إلى أن شبه الجزيرة هذا يضم أصولاً عسكرية روسية قيمة وشعباً متعاطفاً إلى حد ما، تُعتبر القرم جغرافياً معزولة عن سائر أوكرانيا. واستطاع بوتين أن يتوقع بثقة أن غزوه هذا لن يواجه رداً فعلياً من الغرب المنهك عالمياً.

طوال سنوات، اعتمد بوتين على المطرقة الثقيلة السوفياتية الطراز، وتشير أعماله الأخيرة إلى أن الأساليب العسكرية والاستخباراتية التقليدية ما عادت تشكّل الوسائل التي يرى أن عليه استعمالها للقتال. فبينما يركز الغرب على أفضل ردّ فعل تجاه خطواته الأخيرة، بدأ بوتين على الأرجح العمل على المراحل اللاحقة: تحديد أي بروتوكول دولي (هذا إن وجد) ينطبق على أعماله، وكيف يمكنه استخدام مناوراته هذه في أماكن أخرى.

إذاً، آن الأوان للتخلي عن المفهوم البالي القائل إن الحروب القارية قد انتهت، فبالنظر إلى المستقبل، نرى أن الشروط التي يلعب وفقها العالم هي شروط بوتين، وهذا واقع علينا الإقرار به وتحديد ردود الفعل الأكثر فاعلية تجاهه.

* ك. ماككو وأ. مانياتيس مستشاران مستقلان يقدّمان النصح للحكومات والمؤسسات والمنظمات الدولية في شؤون السياسة الخارجية والتواصل الإستراتيجي. وعمل كلاهما في فريق الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي ومستشاره القومي خلال حرب عام 2008 مع روسيا وبعدها: ماككو بين عامَي 2008 و2013 ومانياتيس بين 2006 و2013.

Gregory Maniatis & Molly K. McKew

back to top