تطوير الخطاب الديني

نشر في 09-06-2014
آخر تحديث 09-06-2014 | 00:01
 د. عبدالحميد الأنصاري الخطاب الديني المعاصر في مجالاته الثلاثة: التعليمي والدعوي والإفتائي، وفي وجوهه المختلفة: التقليدي المحافظ، والسياسي المؤدلج، والمعتدل الوسطي، مسموعاً أو مقروءاً أو مشاهداً، ورقياً أو إلكترونياً، في وضع انفصامي مع حركة مجتمعاتنا، لا تواكب تغيراتها السياسية والاجتماعية وتطلعاتها إلى مستقبل أفضل، وحتى نتجنب التعميم فإن الجانب الأكبر من هذا الخطاب المؤثر في الشباب والمشكل لوجدانهم وعقلياتهم وتصوراتهم وسلوكياتهم، وبخاصة الشباب الذين عندهم القابلية للتضحية بأنفسهم تحت شعار "الجهاد" في وضع مأزوم.

 علل وأمراض الخطاب الديني المعاصر عديدة، شخصها باحثون ومتخصصون في العديد من البحوث والمقالات والندوات والمؤتمرات حول "تجديد الخطاب الديني" على امتداد السنوات التي أعقبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي ضربت أميركا، وجسدت أبرز دلائل فشل الخطاب الديني في تحصين الشباب المسلم وحمايته من الانحراف، وكان آخر هذه المؤتمرات مؤتمر "الخطاب الديني: إشكالياته وتحديات التجديد" 17-18 مايو، بمراكش.  نظمته مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" وهي مؤسسة بحثية مستقلة تسعى إلى تحقيق رؤية إنسانية للدين منفتحة على العلم والمكتسبات الحضارية، تؤمن بأهلية الإنسان على إدارة حياته ومجتمعاته، متخطياً الوصايات الأيديولوجية، وأن خيرية الإنسان أوسع من اختزالها في دين أو عرق أو طائفة، وأن كرامته تكمن في احترام حريته الفكرية والاعتقادية. وقد لا يتسع المجال لذكر كل علل الخطاب الديني ولكن من الأهمية أن ندرك أن الخلل الأكبر للخطاب ليس شكلياً متعلقاً بجموده وقصوره، إنما يتعلق ببنية الخطاب ومضامينه ومكوناته وأهدافه، فهو خلل متأصل في عجز بنيوي عميق عن استيعاب التغيرات السياسية والاجتماعية وحركة مجتمعاتنا الحالية وتطلعها إلى تجاوز فجوة التخلف الواسعة التي تقصلنا عن عالم المزدهرين.  مازلت مؤمناً بأن إصلاح الخطاب الديني وتطويره هما المدخل الضروري الأهم لإصلاح الأوضاع العامة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وطبقاً لـ"إعلان باريس" أغسطس 2003 فإن تجديد الخطاب الديني ضرورة ملحة لعبور الفجوة بين العالم العربي والإسلامي والعالم المتقدم، وعامل رئيسي في تجديد الحياة السياسية والاجتماعية في العالم العربي.

هذا الخطاب الديني السائد على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة هو إنتاج ما سمي بـ"الصحوة الدينية" عقب إفلاس وانحسار طروحات التيارين: القومي واليساري، وقد أصبح اليوم عاملاً معوقاً للتطور، وفشل في حماية شبابنا من أمراض التطرف والغلو، وأخفق في تحصين مجتمعاتنا أمام غزو الفكر الإرهابي، بل حمل فيروساته إلى ديار المهجر في الغرب فزاد المسلمين هناك رهقاً وأظهر من بين ظهرانيهم من شوه صورة الجهاد الإسلامي، وأقلق الغرب وزاد من توجسه من المسلمين والإسلام، ليستغله اليمين المتطرف وينشط متصدراً الساحة الغربية.  لقد أورد هذا الخطاب شباب المسلمين المهالك، وزين لهم الانتحار وسماه "أسمى الجهاد"، وحولهم إلى قنابل بشرية طائرة وأدمغة مفخخة وأحزمة ناسفة ومشاريع للشهادة– يعجب المرء لشاب يافع متألق يعشق كرة السلة يعيش في فلوريدا يأتي إلى سورية لينضم إلى جبهة النصرة ليقود شاحنة محملة بـ16 طناً من المتفجرات فيفجرها في مطعم لجنود النظام!– حتى "القوارير" تم تفخيخها تحت شعار "مشروع شهيد".

 وفضلاً عن ذلك فقد أخفق هذا الخطاب في تصحيح المفاهيم المغلوطة عن الإسلام وتحول إلى عامل "تأزيم" وفرقة بين المسلمين، ومصدر تهديد للوحدة الوطنية في المجتمع الواحدة، راجع: محنة المسيحيين في الشرق الأوسط، مهد المسيحية، للأمير تشارلز.  لقد أصبح جانب كبير من الخطاب الديني عبر المنابر والفضائيات الدينية والإلكترونية خطاب تعبئة وشحن وتحريض على الكراهية، وتكريس الانقسام ومعاداة مفاهيم الحرية الدينية وحقوق الإنسان، إن علة العلل في الخطاب الديني المعاصر، أنه مشدود إلى الماضي، إلى مفاهيم وحلول ومقولات كانت صالحة في زمنها، لكن انتهت صلاحيتها ولم تعد صالحة لقضايا ومفاهيم عصرنا. ما زالت صورة المرأة في الخطاب الديني المعاصر صورة عير منصفة: دينياً وإنسانياً وأخلاقياً، فهي إما مخلوق يخاف من فتنته وإما عرض يخاف عليه، وفي الحالتين يجب فرض وصاية الولي عليه دائماً، ويكرس الخطاب الديني المعاصر نموذجه الأسمى للمرأة في: زوجه مطيعة لزوجها، وأم مربية لأولادها، ملتزمة لبيتها فحسب، دون أن يكون لها إسهام تنموي مجتمعي.  كما أن صورة "الآخر" في الخطاب الإسلامي المعاصر "مستريبة" تبعاً للمثل الشعبي "اللي ما هو على دينك ما يعينك"، وذلك في عالم تقاربت شعوبه وسقطت حواجزه، وأصبحت احتياجاته متبادلة وتحدياته مشتركة.  ومازال الخطاب الديني المعاصر مسكوناً بالغرب وأميركا والمؤامرات العالمية ومخططات بني صهيون، ويرى أن علة تخلفنا هي الهيمنة الأميركية والغربية على مقدراتنا، بل إن قطاعاً من الرموز الدينية يرفض الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني بحجة أنها إملاءات الآخر الذي يريد إلغاء التعليم الديني وحذف آيات الجهاد بهدف التغريب وطمس الهوية!

إننا اليوم بحاجة ماسة إلى تطوير الخطاب الديني و"أنسنته" ليصبح خطاباً يحتضن الإنسان لكونه "إنساناً" قبل أن يكون مسلماً أو غير مسلم، رجلاً أو امرأة، سنياً أو شيعياً، صوفياً أو سلفياً.

 نريد خطاباً دينياً يحبب شبابنا في الحياة وفي توظيف طاقاته في ميادين السباق الحضاري لا الهدم والتدمير وإزهاق الأرواح، نريد خطاباً إنسانياً يشيع مشاعر البهجة والسرور والفرح في مجتمعاتنا، ويؤكد القيم الأخلاقية الرفيعة، فرسولنا صلى الله عليه وسلم "رحمة مهداة"، وقد بعث ليتمم مكارم الأخلاق والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، نريد خطاباً إنسانياً متسامحاً ومنسجماً مع روح العصر ومنفتحاً على الثقافات الإنسانية، يزيل توجس العالم منا كما يزيل هواجسنا التآمرية تجاهه، لقد خسرنا كثيراً برفضنا للعالم أكثر من رفض العالم لنا.

 * كاتب قطري

back to top