قليلة هي الكتب النقدية التي ترتقي بمنح القارئ متعة توازي تلك المتعة السحرية التي تقدمها كتب الإبداع، شعراً وقصةً ورواية. لكن متعة قراءة كتاب الإيطالي «أمبرتو إيكو-Umberto Eco» ترجمة د. سعيد بنكراد، الصادر عن المركز الثقافي العربي، بطبعته الأولى 2014، إذ تمنح القارئ متعتها الخاصة، فإنها تأخذه إلى ما خلف المتعة، وأعني بذلك الوقوف على أسرار الكتابة من شخص بات معروفاً على مستوى العالم بكتاباته الروائية والنقدية.

Ad

«اعترافات روائي ناشئ» تقدم رؤية نقدية تشريحية لعملية الكتابة أثناء تشكّلها، بدءاً بالفكرة، مروراً بمراحل الكتابة، وطباعة ونشر العمل، وانتهاء بوصول العمل إلى القارئ وتفاعله معه. وهي في ذلك تؤكد حاجة ووصل الإنسان مع الحكاية كشأن بشري لا يمكن الاستغناء عنه: «نحن من غابر الأزمان نحكي، ولا نفعل ذلك من أجل استعادة ما فات، بل رغبة منا في فهم ما حدث أو ما يمكن أن يحدث، أو نفعل ذلك فقط من أجل الاستمتاع بحالات لا تحكمها قوانين العالم الواقعي» ص10 إن مدخلاً كهذا يقول بشكل واضح إن البشر جبلوا على الحكي شفاهاً ثم كتابة لأن ذلك يسري في دم ولحم يومهم وحياتهم، ولأنه كذلك فسيبقى الإنسان مجبولاً على حب الأدب والفن، لمعرفة وفهم ما جرى ويجري، وللمتعة الخالصة، وهذا بدوره يقدم لحياة الإنسان الخاصة معنى، يفوق دائرة الواقع الضيق الذي يعيشه.

الكاتب أمبرتو إيكو وهو يبلور فهمه لدور الفن، ومتطلبات وظروف الكتابة الروائية تحديداً، يأخذ القارئ في رحلة مشوّقة لشرح عوالم كتاباته الروائية، كاشفاً أسراراً كثيرة تخص لملمة عناصر الكتابة، أسراراً بقدر ما تخص الكاتب وصناعة الكتابة، فإنها تعني القارئ في أخذه لعوالم مخفية عنه، ولتخاطب إدراكه في الوقوف على السبب الذي يجعله يتفاعل مع نص دون آخر.

الرواية حياة توزاي حياة الواقع، ولأنها كذلك فإن الخوض في طينها، خوض في دروب الحياة، لكن ما يقف أمبرتو إيكو مطولاً أمامه، هو قدرة الفن الخارقة على أن يكون أكثر حضوراً وتأثيراً في البشر من الواقع نفسه. ويعقد مقارنة بين كتب التاريخ والرواية قائلاً: «قد يغير المؤرخ من إثباتاته إذا استدعى البحث ذلك، ولكنْ لا أحد يستطيع تغيير ما يُبدعه التخييل السردي. إن حقائق الأدب هي غير حقائق التاريخ، لذلك فالشخصية التخييلية أطول عمراً من كائنات الحياة الواقعية، إن الشخصيات التخييلية لا تتمتع بـ»سجلات مدنية» مضبوطة، لأنها موجودة في وجدان الناس، لا في أرشيف البلديات» ص13. من المؤكد أن لاشتغال الدكتور سعيد بنكراد في النقد، دوراً كبيراً في ترجمة سلسة ومخلصة وموضوعية لعبت دوراً رئيسياً في إيصال النص في أفضل صورة للقارئ العربي، وجعلت من مادة الكتاب مادة شيقة تتصل ليس بالكتابة الروائية، لكنها ترتبط بالحياة، وتحاكي وعي الإنسان القارئ وعلاقته بالقراءة، والقراءة الروائية على وجه الخصوص.

أحد أهم الركائز التي ترد على لسان أمبرتو إيكو هو تأكيده في أكثر من مكان على بحثه الجاد والدؤوب والعميق في كل ما يريد أن يتصدى لكتابته. وكيف أنه أمضى الأيام والأشهر متفحصاً دهاليز وجدران وحوائط الكنائس التي كتب عنها في روايته «اسم الوردة»، علما بأن «أطروحته لنيل الدكتوراه كان موضوعها الجماليات القروسطية». وبما لا يدع مجالاً للشك، أن كتابة الرواية هي مسألة بحث وتقص في المعلومة وشؤون الحياة، قبل أن تكون نزهة عابرة. ومرجع ذلك هو أن الرواية تأريخ للمجتمع، وهي باقية لعقود أبعد بكثير من عمر كاتبها.

«اعترافات روائي ناشئ» هدية كاتب عالمي لكتّاب العالم.