«كميونات» هدى قساطلي أدب المعدن

نشر في 09-03-2014 | 00:01
آخر تحديث 09-03-2014 | 00:01
تقيم عالمة الانتربولوجيا اللبنانية هدى قساطلي معرضاًً جديداً في {غاليري أليس مغبغب} (بيروت)، يستمر حتى 28 مارس. المعرض رحلة في الكلمات المكتوبة على {الكميونات} والناقلات الكبيرة بتعبيراتها المختلفة التي تجمع الشعر والأمثولة والفكاهة والدعاء وتصميمات جمالية مختلفة.
المعرض هو جزء من مشروع لهدى قساطلي بدأته بإصدار كتاب بالفرنسية عنوانه  Les Camions Peints du Liban d’ aujourdhui، يتضمن مئات الصور للكتابات والرسوم على الشاحنات والحافلات، يضعها السائقون على آلياتهم ويعبرون من خلالها عن السياسة والحب وأمور أخرى.

تكتب قساطلي في مقدمة عملها عن السنوات التي أمضتها على طرقات لبنان تلحق شاحناته وباصاته لتصوّرها وتحصي العبارات والرسومات التي تزيّن حديدها الثقيل. بدا كأن قساطلي في رحلة صيد الصور، من خلال كتابها الذي صنف في أكثر من اتجاه، باعتبار أن المؤلفة تقدمه باللغة الفرنسية وبالتالي تتوجه به إلى القارئ الغربي قبل العربي.

هوية وتراث

لم يكن أحد منا، يتوقع أن تتحول العبارات المكتوبة على الشاحنات حجة لإصدار كتب حولها أو إقامة معارض، باعتبار أنها تنتسب إلى الفن {الموقت}، بحسب تسمية هدى قساطلي، التي تركز على الهوية والتراث في أعمالها وتستخدم الصور كأمر محوري في مشاريعها، وقد رصدت مئات العبارات التي نتابعها يومياً على الشاحنات اللبنانية والعربية، فلسفية تارة، أو دعاء ديني تارة، أو أشعار حب، أو أمثال شعبية ونصائح (لا تسرع الموت أسرع، لا تسرع يا بابا نحنا ناطرينك) أو كلمات من أغانٍ حديثة وقديمة، أو عبارات اجتماعية (لا يخيفني الموت لكن تقتلني دمعة أمي)... وتكثر في كتابات الشاحنات، العبارات المتّصلة بلفظة الجلالة وحضورها القوي في النسيج الشعبي (راجعة بإذن الله، ويا رضا الله ورضا الوالدين، الله حاميكي).

وضعت هدى قساطلي صورها الكثيرة في أبواب محددة، مثل الأرزة وما رافقها من تعليقات من نوع {أكبر من أن يُبلع أصغر من أن يقسّم} أو {إحفظ أرضك تحمي عرضك} أو {عزّنا بأرزنا}. وممّا أوردته قساطلي في هذا الباب يظهر كم أن الكليشيهات القديمة المتعلّقة بحبّ الوطن ما زالت تعمل، رغم الحروب وانقسام اللبنانيين بعضهم على بعض.

تتنوع عبارات شاحنات قساطلي، بين ما هو إرشادي {انتبه السائق على اليمين}، أو مأخوذ من أمثال سائدة من قبيل: {ما بيهزّ العرش غير النسوان والقرش}، أو {بدك ترضي بليس خد من الآدمي واعطِ الخسيس}، إلى ما هو خرافي، كتعليق ريش النعام مثلاً على مقدمة الشاحنة، في رمزية إلى السرعة والخفة، أو تضمينها رسماً لحصان أو نسر، أو خرز ملونة، في إشارة إلى هذه الأشكال البلاستيكية التي يزين بها البدو بعض ماشيتهم: مثلاً، تزيين قرنَي الجدي بالخرز الأزرق تحديداً.

على أنّ ما تُزيّن به الشاحنات من خرز وريش وقلادات، راجع إلى عادة قديمة درج عليها السابقون، وانتقلت من الحيوانات كالأحصنة والجمال والحمير إلى الشاحنات ووسائل النقل الحديثة. ربما تكون العادات نفسها هي التي تجعل سائقي الشاحنات اليوم يزينون شاحناتهم، تماماً كما كانت العادة سابقاً أن يزيّن المرء حصانه ليميّزه عن غيره تارة، وليفخر به ويعجب به تارة أخرى...

العدو الأبرز

ويظهر من خلال توثيق هدى قساطلي، أن الحسد هو العدو الأبرز لدى فئة كبيرة من الناس، وأول ما يستدعي تحصين الآلية وسائقها بعبارات مثل {إبعد عني عيونك}، أو {عين البصّاصة تبلى برصاصة}، {الحسود لا يسود}، {عين الحاسد تبلى بالعمى}، أو {يا ناظرني نظرة حسد/ أشكيك لواحد أحد}، أو {كل العيون فيها والرب حاميها} و«اثنان في النار/ الحاسد والحاقد}، {سيري فعين الله ترعاك}.

وإلى الزينة هذه، الواقية من الحسد، تضاف رسوم للكفّ الزاجرة التي توقف العين الحاسدة، وأحذية الأطفال التي تُعلّق في مؤخّر الشاحنات، رسوم العين الزرقاء التي تردّ العين، وإن جرى، في هذه الأخيرة، الإمعان في تجميل العيون المرسومة إلى حدّ نزوحها نحو أن تكون عيون نساء محبوبات. وهذه العيون المحبوبة أحصت قساطلي في كتابها اثنين وعشرين تشبيهاً بها، بينها مثلا {جمال الكون مرسوم بعيونك والدنيا كلها ما بتسوى بدونك}، أو {لعيونك}...

{ثقافة الشاحنات} في لبنان يمكن وضعها في خانة {الأدب الشعبي}، فعلى كل شاحنة عبارات  تعكس ثقافة ما، تقليدية واجتماعية وسياسية، تحمل في براثنها أبعاداً ميثولوجية، خرافية، غيبية، دينية، عصبية، طائفية، مناطقية، فكاهية، ذكورية وحتى أدبية وشعرية.

back to top