أنهى باراك أوباما ما بدأه جيمي كارتر، فتسدل واشنطن الستار على جهودها العسكرية التي دامت أكثر من ثلاثين سنة، والتي سعت إلى حمل العالم الإسلامي على التطابق مع مصالح الولايات المتحدة وتوقعاتها، وهذه خطوة طال انتظارها.

Ad

عندما أدى ترويج كارتر لعقيدته إلى إطلاق هذه الجهود في عام 1980، كان هذا الرئيس الأميركي يملك فهماً مبهماً عمّا قد يأتي لاحقاً. رغم ذلك، دفعته الظروف (الإطاحة بشاه إيران والغزو السوفياتي لأفغانستان)، على التحرك، أو بكلمات أدق، أرغم الاضطراب السياسي المحلي، الذي ولدته هذه الحوادث، الرئيس على إظهار أنه يتخذ الخطوات اللازمة للتصدي لهذه التطورات، علماً أنه كان يواجه حملة إعادة انتخاب صعبة، لكن ما أقدم عليه أضفى طابعاً عسكرياً على سياسة الولايات المتحدة على الأمد الطويل في تلك المنطقة.

يعمل الرئيس أوباما اليوم من دون ضجة تُذكر على عكس عقيدة كارتر بفاعلية، فبدأ الوجود العسكري الأميركية يتراجع في المنطقة، وعلى غرار كارتر عام 1980، لا يرى أوباما أمامه الكثير من الخيارات، ففي الداخل، أرغم الغضب المتفشي والقلق والذل كارتر على البدء بتحضير الأمة للقتال في سبيل الشرق الأوسط الكبير، ويعتبر الرؤساء الذين خلفوا كارتر أنه استسلم لوزارة دفاع أميركية منهمكة في تعزيز قدراتها على اللجوء إلى القوة في أي بقعة من المنطقة الممتدة من مصر إلى باكستان. وتبين أن هذه الخطوة لها وجه إيجابي، بعد أن أعطت الانطباع أن القوة العسكرية، إذا استُخدمت بدقة، قد تصحح الأوضاع، لكن خيبة الأمل العامة اليوم، التي أسفر عنها ما نشب من حروب وأشباه حروب، تمنع أوباما من خوض معارك جديدة.

أدت خيبات الأمل المتعاقبة، التي لم تكن كلها من صنع أوباما، إلى الحد من صلاحياته كقائد أعلى، فبدل أن يكون صاحب القرار، صار يصدق على قرارات تُتخذ في مكان آخر. على سبيل المثال، أقر الرئيس، بإلغائه هجوماً عسكرياً أميركياً هدد بتنفيذه ضد سورية، بما سبق أن أوضحه الرأي العام والكونغرس: تبدد دعم أي مغامرات عسكرية إضافية هدفها تحرير المسلمين أو استرضاؤهم. لا شك أن الأميركيين ما زالوا يعبرون عن محبتهم لجنودهم، إلا أنهم فقدوا شهيتهم للحرب.

قبل نحو قرنين، ذكر دوق ويلينغتون: "باستثناء معركة خاسرة، ما من أمر أكثر سوداوية من معركة رابحة". لكن المعارك العظيمة في أيامنا صارت نادرة، في حين أن الحرب باتت شائعة، وتحول النصر إلى فن منقرِض، فمن المحزن حقاً مقارنة التوقعات التي أحاطت بحروب الولايات المتحدة الأخيرة عند انطلاقها (حرية دائمة!) بالنتائج التي تحققها. نتيجة لذلك، انتهت الحركة الأخلاقية في واشنطن خلال عهد أوباما، وذلك لسبب مبرر: فالأمم التي تتمتع بفائض من القوة تستطيع وحدها اعتماد اعتبارات أخلاقية كأساس لسياستها.

لم تستعد الحركة الأخلاقية حظوتها في الوقت الراهن على الأقل، ويعني هذا الواقع تعديل الطموحات لتتلاءم مع الأصول المتوافرة والتمييز بين المصالح التي تُعتبر أساسية وتلك المرجوة فحسب. ففي أفغانستان مثلاً، تبددت الوعود بتأمين حرية دائمة، لتقدم الحركة الواقعية "دعماً راسخاً" كجائزة ترضية بدلاً منها، وعندما أخبر مستشار أوباما لشؤون الأمن القومي صحيفة "نيويورك تايمز" أن الرئيس يرفض "أن يصب كل اهتمامه على منطقة واحدة" وينوي إعادة تقييم السياسة الأميركية "بطريقة بالغة الدقة من دون أي قيود أو عقبات"، أكد بالكلمات هذه مدى انتشار الحركة الواقعية في واشنطن.

لكن كل هذه التطورات لا تُظهر أن حرب الولايات المتحدة من أجل الشرق الأوسط الكبير قد انتهت، فما زالت هجمات الطائرات بدون طيار، التي تشكل ميزة عسكرية من مزايا عهد أوباما، مستمرة بلا هوادة. رغم ذلك، لا تخدم هذه الضربات الصاروخية هدفاً استراتيجياً بارزاً، سواء نُفذت في باكستان، أو أفغانستان، أو اليمن، أو الصومال. ولا شك أن دوق ويلينغتون كان سيصف حملة الطائرات بدون طيار هذه على حقيقتها: خطوة دفاعية هدفها السماح للكيان الرئيس بالانسحاب.

لكن هذا التراجع لا يخلو من المخاطر، فبينما تشارف حرب الولايات المتحدة من أجل الشرق الأوسط الكبير على نهايتها، تترك العالم الإسلامية في وضع أسوأ (يحاصره الأصوليون، وتهزه أعمال العنف، وتتفشى فيها المشاعر المناهضة للولايات المتحدة) مما كان عليه عام 1980، لا شك أن لائحة الحكام المستبدين الذين تخلت عنهم الولايات المتحدة أو أطاحت بهم والإرهابيين الذين اغتالتهم طويلة جداً، غير أن أي فوائد تحملها هذه النجاحات المفترضة تبقى ضئيلة، يكفي أن تسألوا الأفغانيين أو العراقيين أو الليبيين أو أي أميركي يتابع التطورات على المسرح العالمي.

في عام 1979، شكلت "خسارة" إيران الدافع الأكبر وراء شن الولايات المتحدة حرباً من أجل الشرق الأوسط الكبير. فقد سلبت الإطاحة بالشاه الولايات المتحدة تابعاً غير محبوب، بعد أن حل محلّه متشددون يتملكهم على ما يبدو الكره للشيطان الأكبر.

في تلك المرحلة، هزت ضخامة ذلك الإخفاق السياسي واشنطن، فقد بدا سيئا بقدر "خسارة" الصين قبل ثلاثين سنة، أو ربما أسوأ، لكن هذا الإخفاق السابق بدا بالغ الصعوبة بسبب افتراضنا أننا نسيطر على الصين، ولكن إذا استبعدنا هذا الافتراض، يصبح التعامل مع الصين الشيوعية ممكناً، لنسِر على خطى ريتشارد نيكسون المصلح، حسبما يُفترض، فبتقبله خسارة الصين، حول هذا الإخفاق لمصلحة الولايات المتحدة، على الأمد القصير على الأقل.

ينطبق الأمر عينه على إيران اليوم، فقد ساهم مرور الوقت، فضلاً عن ارتكاب القيادة الإيرانية بضعة أخطاء في حساباتها، في الحد من طموحات الجمهورية الإسلامية. ويمكننا في هذه المرحلة أن نتخيل نيكسون في مكان ما في العالم الآخر يتحرق إلى إسداء النصيحة: تقبلوا "خسارة" إيران، التي لن تعود إلى المدار الأميركي في مطلق الأحوال، وحولوها إلى ميزة للولايات المتحدة.

تفاخر المحافظون في ذروة مجدهم بأن أي شخص يمكنه الذهاب إلى بغداد، إلا أن الرجال الحقيقيين يتوقون إلى الذهاب إلى طهران، لكن استخدام بغداد كوسيلة لعرض القوة الأميركية فشل فشلاً ذريعاً، كذلك تحمل طهران معها مخرجاً محتملاً للتخلص من دوامة الحرب المتواصلة. صحيح أن الصفقة مع إيران ليست مضمونة البتة، إلا أن أسسها متوافرة: نقبل بالجمهورية الإسلامية التي تقبل هي بدورها بالوضع القائم. وهكذا تتمكن هي من الاستمرار، بينما نحظى نحن بفرصة لنعالج جروحاً ألحقناها بأنفسنا. هذه هي الصفقة ذاتها التي عرضها نيكسون على ماو: لا تدع ثورتك تتخطى الحدود الصينية، ونقبل بعقد السلام معك، وتقدم لنا المفاوضات بشأن برنامج إيران النووي وسيلة لتحقيق هذه الغاية الأكثر أهمية.

من المؤكد أن صفقة مماثلة ستزعج إسرائيل والمملكة العربية السعودية، فلكل منهما أسباب خاصة لاعتبار إيران خطراً وجودياً، ولكن بإمكان أوباما ألا يأخذ هذه المخاوف في الاعتبار.

صحيح أن الأميركيين لم يستوعبوا كاملاً بعد هذا التطور، ولكن ما عادت الولايات المتحدة مضطرة إلى الرضوخ لرغبات السعوديين، فاحتياطات أميركا الشمالية من النفط والغاز الطبيعي أكبر مما كنا نظنه قبل بضع سنوات، وبينما يلوح في الأفق احتمال تحقيقنا الاستقلال في مجال الطاقة، تبدو شروط التحالف الأميركي-السعودي (يمدوننا بالنفط ونزودهم بالحماية) بحاجة إلى مراجعة، فقبل فترة قصيرة، بدا استرضاء النظام السعودي بالغ الأهمية، إلا أنه ما عاد بالأهمية ذاتها اليوم.

ينطبق الأمر عينه على إسرائيل، فتعطي هذه الدولة اليهودية، وهي الوحيدة التي تملك ترسانة نووية، فضلاً عن تمتعها بالقوة الأكبر في المنطقة، الأولوية لأمنها الخاص مقابل كل الاعتبارات، ولها كل الحق في ذلك، لكن الخارج عن المألوف ضرورة أن تؤيد واشنطن أو تغض النظر عن تصرفات إسرائيلية تضر بمصالح الولايات المتحدة، ولا سيما مواصلة إسرائيل بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة، وكما تتجاهل إسرائيل اعتراضات الولايات المتحدة على توسيعها المستوطنات في الضفة الغربية، كذلك يجب أن ترفض الولايات المتحدة السماح لاعتراضات إسرائيل بأن تحدد سياستها تجاه إيران.

تستطيع الولايات المتحدة الخروج من مغامراتها الفاشلة في المنطقة من خلال باب "طهران"، ولا شك أن إلغاء الحرب من أجل الشرق الأوسط الكبير لا يعني أن المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تُبتلى بها تلك المنطقة من العالم ستختفي فجأة. إلا أنها لن تعود مشاكل من المتوقع أن تحلها الولايات المتحدة. وهكذا، قد ينجح العهد الرئاسي، الذي بدأ بالتفاؤل والأمل إلا أنه تحول إلى خيبة أمل، في تحقيق إنجاز مميز.

Andrew J.Bacevich * بروفسور متخصص في التاريخ والعلاقات الدولية في جامعة بوسطن.