الشيماء، بنت الرئيس المصري السابق محمد مرسي، جاءها طيف والدها "المحبوس"، ففاض قلبها شوقاً وحنيناً لرؤيته وسماع صوته، وهاجت بها الذكرى لتستعيد سيرة والدها "المليئة بصفحات من الجهاد"، فكتبت رسالة مفتوحة إليه، في ليلة محاكمته، تبث فيها مشاعرها وتحدث أباها الحبيب، وتشد عزمه وتذكره كيف كان رابطاً لجأشه ليلة الانقلاب، هادئاً مطمئناً باسماً، مضى في عبادته الليلية قائماً مصلياً داعياً ومبتهلاً ومطمئناً الأسرة بكل ثقة ويقين:

Ad

1- أن الحرية ثمنها الدماء، وأنه، أي الرئيس السابق، تمنى أن يكون في مقدمة المضحين في سبيلها وأن يتقبل الله دمه "شهيداً".

2- أنه على ثقة أن الشعب المصري سيكمل ثورته المجيدة ولن يسمح بالعودة إلى الوراء، ولن يفرط في حريته أو كرامته ولو على حساب دمه.

3- أن الخلافة قادمة لا محالة.

4- أن دين الله هو الغالب.

5- أن التاريخ سيكتب بخطوط من نور جهاد المصريين.

6- وتمضي الشيماء لتؤكد لأبيها، بأنهم– أي أنصار الرئيس- لا يقبلون الضيم ولا ينزلون على رأي الفسدة ولا يعطون الدنيّة من دينهم أو وطنهم أو شرعيتهم، وأنهم ماضون، وقد باعوا لله أرواحهم وأبناءهم، لتحقيق أهداف الثورة مهما كلفهم من التضحيات، متمثلة بقول الشاعر:

سأحمل روحي على راحتي

وألقي بها في مهاوي الردى

فإما حياة تسر الصديق

وإما ممات يغيظ العدا

ثم تسأل الله: أن يرزقها الشهادة الخالصة، مرددة شعار الإخوان "الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا"، وتختم الشيماء رسالتها بـ"اللقاء عند الحوض يا أبي".

 وإذ لا يسعى الإنسان إلا أن يتعاطف مع المشاعر الحزينة للابنة تجاه أبيها ويدعو الله تعالى بالإفراج عنه وعودته إلى أهله وبراءته من التهم المنسوبة إليه– قتل متظاهرين أمام قصر الاتحادية، محتجين على إعلانه الدستور الذي حصن قراراته الرئاسية ومجلس الشورى، وتأسيسية الدستور من الطعن القضائي– إلا أننا نختلف معها في تكييفها لواقع الصراع السياسي العنيف الحاصل بين الحكومة المصرية وجماعة الإخوان، بأنه جهاد مشروع لإعلاء كلمة الله تعالى وحماية الثورة.

 ونرى في تنزيل مفهوم الجهاد على الواقع المصري المضطرب، توظيفاً سياسياً وأيديولوجياً للجهاد، لا يتفق وصحيح الدين، بل يشوهه ويسيء إليه، فما كان الجهاد في سبيل الله من أجل سلطة دنيوية، ولا يصح أن يوصف بالجهاد، صراع سياسي بين طرفين مسلمين في المجتمع الواحد.

 وقد حفل التاريخ الإسلامي بصراعات مسلحة عديدة بين الدولة والمعارضة وسالت دماء مسلمة غزيرة، ولم يقل أحد إنها جهاد واستشهاد، بل سماها الفقهاء تسميتها الصحيحة "قتال البغاة"، والمستقر شرعاً وفقهاً، أن الجهاد الحقيقي إنما يكون لرد عدوان خارجي يستهدف الدين والوطن، وما هو حاصل في مصر وفي غيرها من الدول العربية من صراع دموي عنيف بين السلطة ومناوئيها، إنما هو صراع سياسي بحت، لا علاقة له بالجهاد الإسلامي.

 قد يقول مدافع عن الإخوان: إن الحكومة المصرية الحالية، إنما هي حكومة مغتصبة للشرعية إثر انقلاب عسكري على حاكم شرعي منتخب، من ثم يجب مقاومتها بشتى الوسائل والطرق لاستعادة الشرعية!

من حق هؤلاء المدافعين عن الإخوان ومناصريهم أن يقاوموا مقاومة سلمية وعبر الطرق المشروعة من غير تخريب وتدمير وتفجير وترويع للناس، وتعطيل للمصالح وقطع للطرق ومهاجمة للمنشآت وشل لحركة المرور، وحرق للممتلكات وزعزعة للأمن والاستقرار، ولكن هذه المقاومة، لا تسمى جهاداً واستشهاداً بأي حال من الأحوال، كما يذهب إليه الخطاب الدعائي الإخواني، لا يمكن تبرير ما يحصل في مصر من أحداث دامية بأنها أمور مبررة وأهداف مشروعة تستلزمها خطة الجهاد، حتى لا يتمكن الانقلابيون من تطبيع الأوضاع في الشارع المصري وتوطيد حكمهم غير الشرعي.

إن هذا الفهم المشوه للجهاد ليس وليد اليوم، إذ يحدثنا التاريخ أن أول تشويه للجهاد إنما تم على أيدي الخوارج القدامى الذين كانوا أكثر الناس تقوى وورعاً، سلّوا سيوفهم على المجتمع الراشدي تحت شعار "الحاكمية" التي استمد منها سيد قطب والمودود تنظيراتهما، وكان الهدف السلطة، وسموا أنفسهم "الموحدين" ووصفوا خروجهم "جهاداً" لكن المسلمين اعتبروه خروجاً وتمرداً.

 وكان التشويه الثاني للجهاد، في عصرنا على أيدي "الخوارج الجدد" الذين يعيثون اليوم في الأرض فساداً، يفجرون ويسفكون دماء الأبرياء من غير حساب، في انتهاك لكل الحرمات وتجاوز لكل الثوابت الدينية، ومع ذلك يسمون أعمالهم الإرهابية "جهاداً"؛ في العراق وحده 4000 عربي فجروا أنفسهم في أبرياء آمنين باسم "الجهاد"!

 دعونا نتساءل: ما الذي جعل "الشيماء" ومن سار على دربها، تعتقد أن ما يحصل في مصر على امتداد الشهور الستة من عنف وتخريب وتفجير هو "جهاد مشروع"؟! إنه "التوظيف السياسي للجهاد"، وهو أمر برع فيه الإخوان عبر تسييس الدين عامة في كل المجالات: تسييس المسجد، تسييس التعليم، تسييس الحج، تسييس كل الشعائر الدينية... الشيماء ليست وحدها في هذا الاعتقاد، فمعظم الشباب الذين تربوا في محاضن الإخوان وتشربوا أدبياته، على هذه الشاكلة.

 لقد نشط الإخوان منذ وقت مبكر في غزو المفصل التعليمي واختراقه وصياغة المناهج الدراسية، بهدف تشكيل عقول الناشئة وفق المنهاج الفكري الحركي المسيس للجهاد وعبر الأناشيد الجهادية، وفي إحصائية أخيرة بمصر، يقدر المراقبون عدد مدارس الإخوان بنحو 400 مدرسة، هدفها تحويل الأطفال إلى "إخوان صالحين" في المستقبل وفقاً لأدبيات الجماعة التي كانت تضع أهمية كبرى على التعليم ما قبل الجامعي، لما تمثله تلك المرحلة من سهولة السيطرة على العقول وتشكيل الفكر وتكوين كوادر ملتزمة بالتعليمات.

 * كاتب قطري