(1)

Ad

الراقصة وأستاذ الجامعة

شتان بين حياته قبل أن تدخلها النساء، وبعدما دخلت سمر تحديداً إلى حياته من أوسع الأبواب. كان صلاح يستعذب لقب «الباشمهندس» رغم حصوله على درجة الأستاذية في كلية الزراعة. أمضى عمره في عشق «الأرض»، وذاعت شهرته في علوم وفنون استصلاح الأراضي، ولم يكن يسعده قط غير اللون الأخضر، حينما يغزو الصحراء وترتفع راياته فوق الرمال الصفراء تحت أشعة الشمس الحارقة. لم ينتبه الدكتور صلاح إلى أن قطار الزواج قد فاته وتكاد آخر محطاته تتجاوزه بعدما تخطى عامه الخامس والأربعين.

 اختلى بنفسه لحظات، تأمل حياته فلم يجد ونيساً ولا شريكاً ولا طفلاً ولا حبيبة، لم يعد قادراً على العمل معظم ساعات النهار كعادته في سنوات شبابه، ولم يجد حوله شلة الأصدقاء الذين كانوا يشغلون بعض ليله بالمسامرات الجميلة واللطيفة، تفرقوا وتزوجوا وانشغلوا عنه وغاصوا في همومهم الخاصة. حتى العمل في الجامعة لم يعد مغرياً، فالطلاب لم يعد بينهم عاشق للأرض، أو موهوب يعلن عن بزوغ نجم جديد، أو دارس طموح ينشر آماله في ربوع المستقبل، تلامذته القدامى كبروا أو انقرضوا أو سافروا أو تنكروا له، وتلامذته الجدد بعث بهم مكتب التنسيق إلى كليتهم طبقاً للمجموع. منذ خمس سنوات قطع صلاح الشك باليقين وقدم الدواء الشافي لحياته المكفهرة، تقدم للزواج من سيدة شابة رشحتها له أخته الكبرى، كزواج صالونات بامتياز، وأجمع الناس على حسن أخلاقها وطهارة سمعتها وظلم زوجها السابق لها. بنى صلاح أحلاماً وآمالا في أيامه المقبلة بعد زواجه السعيد، لكن سرعان ما هربت السعادة حينما اكتشف أنه تزوج من ديكتاتور متوحش.

 

زواج فاشل

لم يطق صلاح الحياة مع شهيرة بعد الأسبوع الثالث من حفلة الزفاف، كانت شهيرة على النقيض تماماً من طباع صلاح، تكره الرومانسية وتهوى السهر وزيارات الأقارب والصديقات وجلسات النميمة مع سكان العمارة، كلمتها هي النافذة وآراؤها هي الحكمة بعينها، والزوج لا حق له في مناقشة قضايا المنزل، وغيرته شك، وعواطفه ضعف. لم يطل احتمال صلاح، هرب من البيت إلى الملاهي الليلية للمرة الأولى في حياته، اقتاده بعض أصدقاء الماضي إلى السهرات الحمراء، تعرف إلى الراقصة سمر، سرقته من همومه، وأوقعته في غرامها وصارت له نسمة الهواء الرطبة كلما خرج ليلا من جحيم شهيرة بحثاً عن النعيم، وكانت النتيجة كما توقعها الجميع، طلاق صلاح وشهيرة.

استثمرت سمر الفرصة، اقتربت من صلاح وعرفت كيف تجبره على إدمان حبها، وحينما أدركت أنه يحبها حتى الثمالة، ولا يتردد في الزواج منها؛ ابتعدت وتباعدت، فراح يطاردها وكأنه يطارد شباب امرأة يوشك أن يضيع منه ويعيده إلى خريف العمر، وفي الوقت المناسب الذي حددته سمر بخبرتها دفعت صلاح إلى الخيار الصعب، إما أن يتزوجها أو يقطع علاقته بها. وضعف صلاح، وخارت قواه، وعقد محاكمة لنفسه، لكن المفاجأة حينما أصدر حكماً لصالح قلبه، برر عملها بالرقص، وغضَّ بصره عن علاقاتها بمن قبله. حجب عن عقله الأفكار المنطقية كافة، وشجعه وعد سمر بأن تعتزل الرقص وتعيش لخدمته لو أنهما تزوجا، بل ابتكر لنفسه نظرية جديدة؛ المرأة الشاردة ليست أصعب من الأراضي الصحراوية التى جعل منها جنة خضراء، واستصلاح أرض الصحراء لن يكون أصعب من استصلاح أنثى ضلت الطريق أو أضلتها الظروف، تغلبت عليه أبحاثه وتخصصاته ونجاحاته في قهر الصحراء وزرعت الأمل في نفسه في أن تزدهر سمر بأخلاقيات المرأة التي يريدها. بل بدأ صلاح فوراً في تنفيذ خطته ومشروعه الكبير، وكانت المفاجأة التالية عندما استجابت سمر بسرعة الصاروخ لعملية الاستصلاح الاجتماعية، تغيرت شخصيتها، ظهرت في ثوب جديد لم يصدقه كل الذين يعرفونها. ورغم إحساس صلاح بأنه أصبح أمام زهرة من زهرات الصبار إلا أنها لم تكن مريرة، بل لذيذة الطعم الإنساني حينما تتكلم أو تصمت أو تتصرف في حضور حبيبها أو غيابه، تشجع صلاح وتزوجها، وابتعد بها عن مصر. سافر إلى إحدى الدول العربية واصطحبها معه وعاشا كأسعد زوجين في الدنيا.

رغم فارق السن الكبير بينهما، فإن سمر جعلت صلاح يشعر بأنه في مثل عمرها، حسدهما الناس أربع سنوات كاملة كانت هي عمر زواجهما فى بلاد الغربة إلى أن عادا إلى مصر لتكشر الحياة مجدداً في وجه صلاح عن طريق زوجته.

إغراء المال

فوجئ الدكتور صلاح بسمر تقع فريسة لعرض عمل بأجر مغر في أحد الأندية الليلية، نسي الرجل أن المرأة لها قوانين خاصة بها وأن الدم كثيراً ما يحن إلى الماضي. فقد صلاح عقله وهدد زوجته بالطلاق وحذرها من أن تفقد حياة الاستقرار بعدما نسي الناس سيرتها ومهنتها القديمة. لكن سمر أصرت على قبول العقد، فشلت الوساطات كافة، وخرجت سمر عن طاعة صلاح الذي صرخ في وجهها بأعلى صوته: «مستحيل أستاذ جامعة تكون زوجته راقصة».

وردت عليه في لامبالاة وهي تغادر بيته: «الرقص فن رفيع، إذا كان عاجبك».

خلال أسابيع عادت سمر إلى إحياء ليالي الرقص الشرقي في الفندق الشهير، وتوقف صلاح عن الإنفاق عليها، فأقامت دعوى تطلب فيها الطلاق من زوجها الذي يمنعها من العمل. وأكد  الدكتور صلاح  أمام المحكمة وهو يتصبب عرقاً استحالة الحياة الزوجية إذا استمرت زوجته في هذا العمل الذي يسيء إلى مكانته الجامعية، فضلاً عن أنها لا تستحق نفقة لأن الانفصال بسبب يرجع إليها، وأنه لا يمانع في الانفاق عليها إذا احترمت حياتها كزوجة لأستاذ جامعي.

وصدر الحكم الذي أثار جدلاً كبيراً بسبب الهجوم الشديد الذي شنه القاضي على مهنة الرقص، وعبارة أن الرقص الشرقي لا يمكن أن يعتبره قاض سيلاقي ربه ذات يوم عملاً شريفاً تقوم به زوجة يفرض عليها الدين والشرع ألا تكشف من جسدها ما يجب ستره، وألا تخضع بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض. ولهذا رفضت المحكمة دعوى الزوجة وألزمتها بطاعة زوجها وأن تتقي الله فيه وفي نفسها ودينها، وأن تحذر من أن تمضي في طريق الشيطان أكثر مما مضت، فإن لم تكن حياتها مع زوجها ستستمر بالمودة والرحمة فإن عليها أن تطلب الخلع، وتنفق على نفسها مما تتكسبه من مال حرام تمطره عليها ليالي السهر في الملاهي، وخرجت سمر منكسة الرأس، واتفقت مع محاميها على أن يبدأ فوراً في إجراءات دعوى الخلع.

(2)

لن أعود

إذا كانت سمر قد قررت هدم عش الزوجية مضحيةً بالزوج المحب لأجل المال والشهرة، فإن فاتن قد وقفت على النقيض كنموذج للمرأة المكافحة التي تواجه مشاكل الحياة بصبر وحزم، تدفع زوجها بعيداً عن طريق الحرام، فكانت تواجه كل يوم بأسئلتها المعتادة:

* هل يموت الإنسان لو لم يسكن في أحد الأحياء الراقية؟

* هل تفقد الحياة طعمها لو لم نملك السيارة والمال ورصيداً في البنك؟

* هل تصبح حياتنا جحيماً لمجرد أنها مزدحمة بالأعباء والأقساط التي تجعلنا نلهث لملاحقتها في المواعيد المحددة؟

حاولت  فاتن أن توقظ زوجها شريف من أحلام يقظته وترده من خلال إجاباته إلى الواقع الذي يجب ألا يؤلمهما كثيراً بعد سنوات طويلة من الزواج، وبعد أن أصبح جزءاً منهما وقدراً عليهما. لكن شريف أجاب عن تساؤلات فاتن كافة بالإيجاب والإصرار معاً ثم راح يستطرد وهو يتهكم تارة أخرى:

- {لماذا لا نكون من سكان الأحياء الراقية؟ أعرف زملاء لي بدأوا معي من نقطة الصفر والآن يركبون السيارات وينعمون بحياتهم، وهم في النهاية يتعاملون مع المجتمع على أنهم من طبقة متميزة. ثم أريد أن أعرف كيف تصفين حياة الأقساط والديون والأعباء بأنها حياة، هي جحيم وليست حياة، أليس كل قسط يلسعنا ويلهب جيوبنا بالأعباء فنتلوي كمن يحترق في قلب النار؟}.

أطرقت فاتن برأسها برهة، واستجمعت كل شجاعتها ثم قالت لشريف:

* {أفضل الفقر مع الشرف على الثراء مع الحرام أو حتى الشبهات. نحن في النهاية نتساوى في المواقف المصيرية مع الأثرياء بعدما تنتهي حياتنا الموقتة فوق الأرض. ملك الموت لا شفاعة عنده لمنصب ولا وساطة لجاه، كلنا لن يفلت من الموت، الفقراء والأثرياء، وكلنا متساوون حين نقف في ساحة الحساب والمحاكمة الإلهية، الأثرياء ونحن، ومادامت حياتنا موقتة فلا داعي للتكالب على زينتها والسقوط في إغراءاتها، وما دمنا نعيش حياة مستورة فلا علينا إلا الشكر، ولا تكفر يا شريف بالنعمة}.

- يا فاتن فين عقلك... حياتنا مستورة منين كيف والديون تلاحقنا؟!

* نحن قادرون على السداد في المواعيد المحددة، والسعادة في الإحساس بالستر نفسه، الستر لا مواصفات له ولا يشترط الثراء وانعدام الديون.

- ما هو لازم أسافر؟!

* ياما ناس سافرت وكسبت فلوس وخسرت ما هو أهم وأغلي. مشكلتك يا شريف أنك تربط السعادة والستر بالفلوس، ورغم كده سافر، وأنا معاك.

انحراف

فشل شريف في العثور على عقد العمل المنشود، وساءت نفسيته وبذلت فاتن جهداً خارقاً حتى يسترد شريف اتزانه وعقله ويقتنع بفلسفتها في الحياة، خصوصاً أنها لم تشعره يوماً بما يثقل عليه تحقيقه. عامان منذ اجتاحت رأسه هذه الأفكار المجنونة عن الثراء، وهو لا يتحدث في مصطلحات الصفقة، و{خبطة» العمر، والفرصة الذهبية، وساعة الحظ التي لا تعوض.

 كانت فاتن صبورة، وما أعظم صبر المرأة عندما تحب. كانت تحبه وترتبط به ارتباط الفلاح بالأرض، إذا غاب عنها ولو ساعات قليلة غربت عنها الشمس، إذا تجهم وجهه أو غضبت ملامحه هبت عليها العواصف، إذا تكلم تراقصت ثمار التفاح فوق لسانه، وإذا صمت سكت الكون كله. كان أكثر ما تخشاه فاتن أن يقع شريف في براثن زميله فهمي، خصوصاً أن علاقتهما توطدت وتوحدت وصارت لغزاً أمامها.

 ألم يكن شريف ينتقده بحدة حينما يتحدث عن جرائم الرشوة التي يرتكبها؟ ألم يكن شريف يلعن ذكاء هذا الزميل الذي يجعله يفلت كل مرة من قبضة القانون والعدالة؟! لماذا تحول شريف فجأة وصار صديقاً لهذا المرتشي، الذي كان يطلق عليه شريف سابقاً وصف «الموس» فهو يمسح كل ما أمامه، أو كما يقولون في المثل الشعبي: «طالع وآكل، نازل وآكل». دارت الدنيا بفاتن من كثرة تفكيرها في العلاقة المريبة التي جمعت اللدودين شريف وفهمي، كانت تردد مع نفسها في ضيق: «يا رب سلم، يتحرق فهمي، المهم زوجي».

زاد الأمر عن حده، أصبح شريف يغني معظم الوقت، أحب حياته، لم يعد يحمل هماً للديون والأقساط ولا يشعر بأنه والدنيا في حالة خصام، وذهب صواب فاتن، سألته في عصبية:

* منين الفلوس دي؟

- شغل إضافي!

- أنا أقبل أن أنام جعانة ولا أنام شبعانة من حرام!

* اطمئني... ولا تجعلي الشيطان يلعب بأفكارك.

كانت الحقيقة أن الشيطان لعب بشريف نفسه، قبضوا عليه متلبساً بالرشوة وسجلوا جريمته صوت وصورة. تابعت فاتن الجلسات حتى اكتملت صورة الجريمة أمام عينيها. شريف الذي كان تاجاً فوق رأسها ألقت به فوق الأرض وداسته. لقد عرفت أن الرشا التي طاولتها يداه كانت أموال قصر وأيتام وأرامل أرغمهم على الإذعان لشروطه حتى ينجز أعمالهم، كانت إحدى الجلسات العاصفة التي لم تحتمل فاتن بعدها حضور أي جلسة.

وصدر الحكم في النهاية بالسجن سبع سنوات على شريف، غضبت فاتن من الفضيحة ومن خيانة زوجها لعهوده معها، لكنها لم تشعر بالحزن على الزوج الذي كان دنياها، بل سارعت بعد ثلاثة أشهر ترفع دعوى طلاق عملاً بالمادة 14 من قانون الأحوال الشخصية، التي تقضي في بدايتها بأنه لزوجة المحبوس المحكوم عليه نهائياً بعقوبة مقيدة للحرية مدة ثلاث سنوات فأكثر أن تطلب من  القاضي التطليق من زوجها للضرر. ورد دفاع شريف بأن الزوج ترك مالاً وفيراً لزوجته، فضلاً عن أن الدعوى لم ترفع في الموعد المحدد قانوناً.

لم تلتفت المحكمة لدفاع الزوج وقضت بتطليق فاتن وقبول الدعوى، وبقى الزوج خلف الأسوار العالية بعدما فقد كل شيء؛ عمله والمال والزوجة التي كانت تحبه وتحذره من هذا المصير، عندما تقدم يطلب يدها قبلته زوجاً، وعندما أخذت يده المال الحرام طردته من حياتها إلى الأبد، وعندما مد يده طالباً فتح صفحة جديدة قالت بحسم: «لن أعود».