الشاعر جون دين John Dean من مواليد 1943، ايرلندي وعلى قدر من النشاط والفاعلية، فهو مؤسس جمعية الشعر الوطنية الايرلندية، ومصدّر مجلة «شعر ايرلند»، وله دار نشر باسم «ديدالوس»، ويشتغل بالترجمة، الى جانب أنه يشغل منصب السكرتير العام لـ «الأكاديمية الأوروبية للشعراء».

Ad

ولكن هذا النشاط والفاعلية الخارجيين لا ينعكسان في طبيعة شعره الداخلية، حيث تنقطع هذه الطبيعة عن التاريخ والزمن اليومي لتنصرف الى تيارها الباطني، المُفعم بالمشاعر والرؤى التراجيدية المتسائلة. فقصائده شديدة الكثافة بحيث تحوج القارئ الى صحبة بطيئة، تنبش في التفاصيل معززَةً بموسيقى ترفع من معنوياته الى أعلى، حيث أفق التراجيديا مُطهّرٌ ومحرر.

    مجموعته الشعرية التي صدرت عن دار Carcanet بعنوان «توكاتا وفيوغ»، تضم 45 قصيدة. وكلمتا العنوان مصطلحان موسيقيان في فنين للتأليف: الأول «توكاتا»، ويشير الى قطعة موسيقية على آلة «الهاربسيكورد» أو «الاورغن»، تتولد من لمسة العازف المتسارعة الرقيقة، وقد ارتبطت في دلالاتها الروحية باسم «باخ».

وكذلك الشأن مع «الفيوغ»، أو «الفوجا» في بعض الترجمات، الذي يتألف من تقنية معقدة تعتمد اللحن الواحد الذي يتلاحق ويتداخل، بصورة تخلف في النهاية شبكة لحنية غاية في الالتحام الهارموني.

قصيدة «فيوغ» تنحو هذا المنحى، في حين تستسلم قصائد «توكاتا» للمشهد الواحد، أو للصور المتتابعة التي تشكل مشهداً لا سبيل الى وصفه دون الصور. والشاعر «دين» رائع في هذه الخصيصة.

العنوان لا يشير الى مشاغل تقنية في النصوص الشعرية، لأنني لم ألمس ايقاعاً خفيفاً، متسارعاً، ولا تداخلات صوتية. بل على العكس، ما وجدته إنما هو استثارة لمشاعر فقدان «الشاعر فقد زوجته الشابة»، وحيرات* تكاد تكون ذات طابع ديني. لعل أهم مصادرها العنف والقسوة، وهما يأخذان بخناق الحياة في الغرب وفي العالم اجمع، الى جانب سطوة الآلة وقبضة الهوس المادي.

الشاعر يعيش في جزيرة شبه ريفية تدعى «أخيل»، وفيها من الانبساط والتضاريس الجهمة* والبحر المحيط، ما يوفر له مصدراً ينتخب أشياء وعناصر قصيدته منه، ليشكل من علاقاتها المرئية هواجسَه غير المرئية، هواجسه التي تتساءل دون يقين عن مدى قدرة الدين على احتضان الكائن وانتشاله من وهدة يأسه. في قصيدة «كفارة» يعطينا هذا المشهد:

«انهم يخلّفون أحذيتهم شاراتٍ في أسفل المنحدر.

انهم يرتقون حافة الجبل ببطء، حيث تهسهس الريح والمطر، وينحدران دونهم.

يجرجرون البقايا المتناثرة لحياتهم.. بضعة خروقات للقوانين صغيرة، وبضعة آثام وانتهاكات محزنة، ولكن الجبل المتعاظم هذا لا يأبه لعبورهم، ولا لتزاحم الحجارة وفُتاتها».

    حين هبطوا مقرّحي الأقدام، حيث تآكلت خطاياهم، بقي الإحساس بالذنب كما هو، وكذلك الجبلُ الاسود الشامخ فوقهم في وجه العتمة، أو هذه الهواجس التي تحاور حقيقة الموت «حيث لم يعد فكرةً»، إذ ان الشاعرَ فقد زوجته في ريعان علاقتهما وريعان شبابها. الموت الذي يمثل قدراً قسرياً، تراه في أكثر من قصيدة. وكذلك الموت الذي يمثل الفقدان، فقدان زوجته بالذات، وتراه في أكثر من قصيدة أيضا:

«في الليل العميق، حين كانت الشوارع ساكنةً جميعها، تسللتِ من سرير نومنا وانحدرتِ على السلم.

كنت مُستثاراً، غيرَ عارف بأن شيئاً من ضوئك الداخلي غادرك، وبلا حراك نمت. كان نداء من عتمة الليل جذبك.

فاستسلمتِ له، وطفتِ الشارع الصامت حيث السيارات تنتظر في الثلج وراء البوابة. كنتِ ظلَّكِ على جدار المرآب. طين الممر مس قدمكِ العارية. أشجار الدردار الذاوية في بيتنا أصبحت تعريشتَك، وعلى رقبتك طاف الهواء البارد طليقا.

وفي ساعة عميقة الصمت كهذه خطوتِ مأخوذةً بهمومك في ليل عميق وأنا نائم».

الترجمة، دون شك تلغي كليا موسيقى اللغة الشعرية الأم فكيف بموسيقى الشاعر؟