تقف سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران عند مفترق طرق، فتستطيع الولايات المتحدة أن تتخلى عن إصرارها العقيم على هيمنتها الشرق أوسطية، وتفاوض بشأن صفقة نووية تقوم على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وتتعاون بجدية مع طهران للتوصل إلى تسوية للصراع السوري. خلال هذه العملية، تحسن الولايات المتحدة كثيراً قدرتها على التأثير في النتائج في تلك المنطقة. في المقابل، بإمكان الولايات المتحدة أن تواصل السير في مسارها الحالي، ما يوصلها إلى فشل استراتيجي ذريع في إحدى أهم بقاع العالم، ولا شك أن هذا سيؤدي إلى تداعيات خطيرة تنعكس سلباً على مكانتها في آسيا أيضاً.

Ad

تقف سياسة الولايات المتحدة عند مفترق الطرق هذا لأن كلفة سعي واشنطن عقب الحرب الباردة إلى السيطرة على الشرق الأوسط بلغت معدلات خطيرة، فالمعضلة التي وضع الرئيس أوباما نفسه فيها بسبب خطته لمهاجمة سورية بعد استعمال الأسلحة الكيماوية في هذا البلد في شهر أغسطس تُظهر أن الولايات المتحدة ما عادت قادرة على التهديد بفاعلية باللجوء إلى القوة كي تفرض تفضيلاتها في المنطقة، صحيح أن أوباما ما زال يصر على أن "كل الخيارات مطروحة على الطاولة" في الشأن الإيراني، غير أن الواقع يؤكد لنا أن واشنطن، إذا أرادت التعاطي بفاعلية مع المسألة النووية، فعليها اعتماد الدبلوماسية.

في هذا السياق، أوصل اجتماع جنيف بين إيران ومجموعة (5+ 1) الشهر الماضي الطبقة السياسية الأميركية إلى لحظة استراتيجية وسياسية حاسمة، فهل تنجح النخب الأميركية في الابتعاد عن السعي المدمر إلى السيطرة على الشرق الأوسط بالتوافق مع قوة إقليمية مستقلة؟ أم أنها مأخوذة بمفهوم وهمي عن الولايات المتحدة بصفتها الدولة المهيمنة إلى درجة أنها، لتحافظ على "القيادة الأميركية"، ستواصل السير في درب يقوض موقفها الاستراتيجي؟

يطلب الاقتراح الذي قدمه وزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف، في جنيف لحل المسألة النووية أجوبة عن هذا السؤال. يحول هذا الطرح المقاربة التي دعمها حسن روحاني وغيره من القادة الإيرانيين طوال عقد إلى عملية قابلة للتطبيق: المزيد من الشفافية في نشاطات إيران النووية مقابل الإقرار بحقوق دولة مستقلة وقعت على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، خصوصاً تخصيب اليورانيوم وفق تدابير وقائية دولية، فضلاً عن رفع العقوبات عنها. طوال سنوات، رفضت إدارة أوباما هذه المقاربة، ولكن على أوباما اليوم التفكير فيها على الأقل.

بالاستناد إلى محادثات مع مسؤولين إيرانيين وشخصيات سياسية في نيويورك في شهر سبتمبر الماضي (خلال مشاركة روحاني وظريف في الجمعية العامة للأمم المتحدة) وفي طهران الشهر الماضي، من الممكن أيضاً تحديد عناصر لا يشملها الاقتراح الإيراني بالتأكيد، فتتحدث بعض التقارير عن أن القائد الأعلى آية الله علي خامنئي أعطى الرئيس روحاني ودبلوماسييه ما يكفي من المرونة للتفاوض بشأن تسوية، إلا أنه أوصاهم ألا يعرضوا سيادة إيران لأي خطر. نتيجة لذلك، لن تقبل الجمهورية الإسلامية بمطالب الولايات المتحدة (وإسرائيل) بوقف التخصيب، وإقفال منشأة التخصيب في فوردو، ووقف مفاعل الماء الثقيل الذي يُبنى في آراك، ونقل مخزونها الحالي من اليورانيوم المخصب إلى الخارج.

تبدو الرزمة الإيرانية على أحد المستويات مصممة لحل المسألة النووية بالاستناد إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية في غضون سنة: فتُحترم حقوق إيران النووية، في حين تبقي تدابير الشفافية مخاطر توسع نشاطات التخصيب أدنى مما تقبل به الولايات المتحدة في دول أخرى. لكن هذه الرزمة تهدف على مستوى آخر إلى اختبار استعداد الولايات المتحدة وقدرتها على حل المسألة النووية على هذا الأساس، ولا يقتصر هذا الاختبار على توسيع معلومات طهران، بل أيضا سائر دول مجموعة 5+1، خصوصاً الصين وروسيا، والقوى الناشئة مثل الهند وكوريا الجنوبية.

يمكن أن تخفق الولايات المتحدة في الاختبار الإيراني بطريقتين: أولاً، قد يتبين أن إدارة أوباما، الني تمثل الطبقة السياسية الأميركية الأوسع، غير مستعدة للإقرار بحقوق إيران النووية بطريقة مباشرة وصريحة، فتصر على شروط للصفقة تعرقل بفاعلية هذه الحقوق وتنتهك السيادة الإيرانية.

ثمة مجموعات ناخبة قوية (مثل اللوبي الإسرائيلي، والمحافظين الجدد الجمهوريين، ونظرائهم الديمقراطيين، وخبراء الشأن الإيراني في الولايات المتحدة) تعارض أي صفقة تقر بحقوق إيران النووية. فتدرك هذه المجموعات أن الاعتراف بهذه الحقوق يعني أيضا القبول بالجمهورية الإسلامية بصفتها كياناً قائماً يمثل مصالح قومية مشروعة. وكي ترضى الولايات المتحدة بأمر مماثل، عليها أن تتخلى عن ادعاءاتها ما بعد الحرب الباردة بأنها تتمتع بالهيمنة في منطقة الشرق الأوسط.

تبين أن هذه الادعاءات تقلص على نحو خطير قدرة الولايات المتحدة على تحقيق أهداف مهمة في الشرق الأوسط، فضلاً عن مكانتها العالمية، فيكفي أن نتأمل العواقب السلبية الخطيرة التي ترتبت على غزو الولايات المتحدة واحتلالها العراق، وكم زعزعت "الحرب العالمية على الإرهاب" الشرعية الظاهرة لأهداف الولايات المتحدة في العالم الإسلامي.

ولكن كما تشير معضلة دعوة أوباما إلى عمل عسكري ضد سورية، لا تزال الطبقة السياسية الأميركية مرتبطة بعمق بادعاءات الهيمنة، مع أن الشعب الأميركي بدأ يتخلى عنها. إذا استطاعت واشنطن القبول بالجمهورية الإسلامية كقوة إقليمية شرعية، فستنجح في العمل مع طهران وغيرها للتوصل إلى حل للصراع السوري، إلا أن واشنطن تشدد، بدلاً من ذلك، على مطالب متعجرفة، وتصر على ضرورة تنحي الرئيس بشار الأسد قبل بدء العملية السياسية. كذلك تعتمد على "معارضة سورية" تمولها المملكة العربية السعودية ويسيطر عليها متطرفون لا يختلفون كثيراً عن تنظيم "القاعدة".

إذا لم يعقد أوباما صفقة تقر بحقوق إيران النووية، فسيؤكد أيضاً الشكوك التي تساور كثيرين من النخبة في إيران، بمن فيهم آية الله خامنئي، وفي بكين وموسكو عن الأجندة الأميركية الحقيقية تجاه الجمهورية الإسلامية. فسيتضح عندئذٍ أن معارضة الولايات المتحدة لتخصيب إيران اليورانيوم لا تعود إلى مخاوفها من انتشار الأسلحة النووية، بل إلى إصرارها على الحفاظ على الهيمنة الأميركية والتفوق العسكري الإسرائيلي في الشرق الأوسط. وإذا صح ذلك، فما قد يدفع الصين وروسيا والقوى الآسيوية الناشئة إلى مواصلة مساعدة واشنطن (مثلاً، بالتجاوب مع مطالب الولايات المتحدة بالحد من تعاملاتها التجارية مع إيران) بغية تحقيق نتيجة لا ترغب فيها حقاً؟

قد تخفق الولايات المتحدة في الاختبار الإيراني، إذا عجزت عن التخفيف من العقوبات كجزء من تسوية نووية تؤدي إليها المفاوضات، إذ تقر إدارة أوباما اليوم ما أدركناه منذ بعض الوقت: باستثناء بعض مبادرات السلطة التنفيذية العابرة، يتطلب رفع العقوبات الأميركية أو تعديلها على نحو جذري لدعم العملية الدبلوماسية موافقة الكونغرس.

خلال عهد أوباما، تحول الكثير من العقوبات الأميركية التي فُرضت في البداية بأمر تنفيذي إلى قانون، كذلك وُسعت هذه القوانين (التي وقعها أوباما نفسه من دون أن يأخذ في الحسبان عواقبها الطويلة الأمد) كثيراً العقوبات الثانوية الأميركية، التي تهدد بمعاقبة دول وكيانات أخرى بسبب معاملات تجارية مشروعة تقوم بها في إيران ومعها، لا بسبب انتهاكات ترتكبها في الولايات المتحدة.

 وتشمل هذه القوانين شروطاً لرفع هذه العقوبات لا تقتصر على تفكيك البنية التحتية النووية الإيرانية، بل تفرض أيضا قطع طهران روابطها مع حركات مثل "حزب الله"، الذي صنفته واشنطن (بتهور) منظمة إرهابية، وانتقال الجمهورية الإسلامية بفاعلية إلى جمهورية ليبرالية علمانية.

لربما نجحت إدارة أوباما في إرجاء تمرير قانون عقوبات آخر لبضعة أسابيع، إلا أن الديمقراطيين في الكونغرس اتفقوا مع الجمهوريين في توضيحهم علانية أنهم لن يقبلوا بتخفيف شروط رفع العقوبات الراهنة لمساعدة أوباما على عقد صفقة نووية وتطبيقها.

 وإذا تمسكوا بعنادهم هذا، فلمَ يحترم آخرون مطالبة واشنطن المبالغ فيها بالالتزام بعقوباتها الخارجة عن نطاق صلاحياتها ضد إيران؟

مع بدء الجولة المقبلة من المحادثات النووية في جنيف، يظهر جلياً أن على أوباما أن ينفق رأسمال سياسي ضخم ليعيد تنظيم العلاقات مع إيران. ولا شك أن مكانة الولايات المتحدة المستقبلية كدولة عظمى تعتمد إلى حد كبير على استعداده للقيام بذلك.

Flynt Leverett & Hillary Mann Leverett