الشاب "جيسون" مصاب بإعاقة حركية شديدة، وعاجز تماما عن الكلام، يتواصل مع الآخرين من خلال الإشارة بإصبعه إلى بطاقات تحتوي على كلمات وصور للتعبير عما يريد قوله، ويشير إلى بطاقة فيها صورة كأس ماء مثلا ليقول إنه ظمآن، وهكذا. تلتقي به كاثرين ذات الاثني عشر ربيعا في عيادة للعلاج الوظيفي، حيث يتعالج أخوها المصاب بالتوحد، فتتعرف عليه بعدما استغرقت في رسم صورته في دفترها الخاص فلاحظتها أمها وطلبت منها الاستئذان منه.

Ad

تدور الحكاية وتتوثق علاقة كاثرين بصديقها جيسون، لتكتشف أن دفتر بطاقاته مليء بصور أغلب الأشياء المادية من حوله، فيه صور كأس وطاولة وكرسي وسيارة وعصفور وشمس وماء وزهرة وشجرة، وغيرها، ولكن ليس فيه صور للتعبير عن المشاعر، ولا توجد بطاقة للتعبير عن أن جيسون مسرور، أو أنه غاضب، أو حزين أو يشعر بالملل أو القلق أو ما شابه. تعكف كاثرين على رسم بطاقات جديدة ملونة له وإضافتها تباعا لدفتره، فتفتح بذلك بابا كبيرا أمام جيسون للتعبير عن مشاعره وإحساساته، وتعيد بذلك، وبعدما صار يحلق في عالم التعبير عما يختلج ويجول في طيات نفسه، إليه الثقة بنفسه. كان جيسون يعاني لفترة طويلة من الزمن وطأة الشعور بأنه مخلوق "ناقص" بسبب إعاقته الجسدية وعجزه عن الكلام، ولكن بعدما تمكن من التعبير عن نفسه ووجد من يتفاعل مع ما يشعر ويحس به عاد إليه تقديره لذاته وشعوره بأنه فرد مكتمل الإنسانية والقيمة.

هذه القصة هي محور رواية للكاتبة الأميركية سينثيا لورد اسمها "قواعد"، كانت فازت في عام 2007 بجائزة شنايدر للكتب العائلية، والتي تمنح للكتب التي تعبر عن معاناة أصحاب الاحتياجات الخاصة.

حين قرأت القصة لمع في ذهني أن ما كان يعانيه جيسون هو بالضبط ما يعانيه أغلب الناس ويحتاجونه في هذه الدنيا، ولا غرابة في ذلك فهو ذاته الأمر الذي عده عالم النفس الأميركي الشهير أبراهام ماسلو (1908-1970) واحدا من الأساسات الخمسة لهرم الاحتياجات البشرية الأساسية؛ إنه الحاجة للشعور بالتقدير.

الشعور بتقدير الناس المحيطين بإنسان ما له هو حاجة أساسية من حاجاته البشرية تأتي مباشرة بعد حاجاته الفسيولوجية وحاجته للأمن والشعور بالأمان وحاجته للتواصل الاجتماعي وتكوين أسرة، وتلحق بها وتعلوها حاجته للشعور بتحقيق الذات، لتتكامل بذلك الأساسات الخمسة لما أسماه مسلو هرم الاحتياجات البشرية الأساسية.

ومن أهم السبل التي تتحقق بها حاجة الإنسان للشعور بالتقدير ممن هم حوله أن يعطوه الفرصة للتعبير عن مشاعره وإحساساته وأفكاره تجاه ما يحيط به من أشخاص وأشياء وأحداث. حين تعطي الإنسان فرصة أن يتحدث فتنصت له بكل جوارحك فأنت تشعره حينها بتقديرك له ولإنسانيته، ولذلك فالكلام في هذا الموقع يصبح أيضا حاجة بالتبعية والإنصات المتفاعل تلبية واستجابة لهذه الحاجة.

ليته لا يغيب عن أذهاننا أبدا أن كثيرا من البشر من حولنا كالقدور المغلقة التي تغلي بما فيها من أفكار ومشاعر وإحساسات، قدور مغلقة تشتعل وتأكل بنفسها طوال الوقت في انتظار لحظة للتنفيس، وكلما تأخرت تلك اللحظة زاد غليانها لتصير أقرب للانفجار. ليتنا ندرك ذلك فننصت أكثر لمن نحب ومن يهمنا أمرهم، ننصت لهم ونعطيهم فرصة للتعبير حتى نشعرهم بتقديرنا لهم وإدراكنا العميق لأهمية وجودهم في حياتنا.