يُعاتبني في رقّةٍ لا أُجيدُها
إن زمنَ المنفى القسري موتٌ، ولكنه موتٌ رفيقٌ بجسدِ وروح المنفي. حين قرأتُ خبرَ رحيل الصديق، الشاعر والفنان محمد سعيد الصكار، قلتُ لنفسي: «ولكنه رحل، كما رحلتُ عام 1978!» على أني خفّفتُ وطأةَ الرأي فقلت: «ذلك كان الرحيل الأول». الرحيل الثاني جاءه وهو في الثمانين. جاءه فوجده على عكاز، وكرسي متحرك. وطنُه العراق على عادته، هجَسَ نهايته الوشيكةَ فجاء بمكرمته المالية ثقيلةِ الوطأة وثباً، يتوسط بها «معهدَ العالم العربي» في باريس ليقيم له حفلةَ عزاء قبل موته بأيام. سمعت أن هذا العراقَ ذاته جاء مظفرَ النواب وهو على سرير مرضه في الإمارات، وقد طعنت به السنُّ، وأصبحت زبدةُ الحياة عنده زبَداً، بالمكرمة ذاتها. وسيجيء دائماً على بُناتِه وهم على مشارف نهاياتهم يتصدّق، باسم تكريم لا طعم له. العراق اعتاد أن يفعل ذلك بأبنائه دون حياء! أعرف الصكار، منذ مطلع شبابي أواسط الستينيات من القرن الماضي، برتقالةً في سورة الماء. كان هذا عنوان ديوانه آنذاك أيضاً. برتقالةٌ سهلةُ التقشير، كريمةٌ برائحتها ومذاقها. حين التقينا في باريس، في عام خروجنا، أخذنا كأس المنفى الأول، واستحسنا مرارته التي تليق بنا. ثم غادرته إلى لندن. في مطلع يونيو من عام 1984، جاءتني منه رسالة بخط النسخ، يذكر فيها بأن فؤاد التكرلي بلّغه عتابي، لأنه جاء الى لندن دون الاتصال بي، مذيلةً بإخوانية يقول فيها:
عتبتَ، وأغلقتَ المساربَ والمجرىأما كان بعضَ العتب يحتمل العُذرا!وكنتَ حريّـــــــــــاً بالتمــاسِ مَعــــاذِرٍلخـــــــلٍّ، فقد يبدو بمــعـــــذرةٍ أحــــــــرىفبعضُ متاعِ الروح أنك بعضُ منــــ وهمْ قلّةٌ ــــ ألوي بهمْ وحشةَ المسْرىوإنْ كنتُ قد ألويْتُ ظهري لمعشرٍفما أنــــــتَ ممـــــن كنتُ أوليْتــــــــه ظَهراففي القـلــــبِ ركـــــنٌ ما يزالُ مُهـــــيّأًلمــــثلكً يا مــن أصـــــطفي ودَّه ذُخــــــــرافرِفقــــاً فقدْ أوهى اغترابٌ جناحَناومالَ بنا حملٌ، وضــــاقَ بنا المجرىونحنُ إلى أن نَحسبَ الصّدعَ ثَلْمةًلأحوجُ منــــــا أن نظنَّ بــــــــه كَسْــــرىوفي آخر يونيو أجبتُه:أعاتبُ، فيما كنتُ أعتبُ مضطرّاوحسبُك أني عاتبٌ مرةً أخرىفأنـــتَ خليقٌ بالملامـــــةِ صاحـــــباً يتيماً، وإنــــي في مُعاتبةٍ أحرىفقدْ زرتُ «باريساً» عديداً ولمْ أجُزْنداءكَ، لكنْ جُزتَه فرصاً تترىفقلتُ يميني أنْ أُذلّلَ موجـــــــــتيوأحرفــــها عمّا ألفتُ من المجــرىفلمْ أتصــلْ، لكن وجــــــهاً ألِــفتهجميلاً أتاني لمْ أُطقْ دونه صبرايُعاتبــــني في رقّـــــــــةٍ لا أُجيدهاويسألــــُني فيمَ العتـــــابُ فلا أجْــــــرافشأني، وقدْ ضاقتْ بنا، مُذْ تأبّطتبلادٌ أضعناها على مضضٍ، شرّاكمنْ يتفــــــيّا، هارباً، ظلَّ هاربٍيغـــــــازله هجـــواً، ويشتاقُــــــه هجـــــراظمئنا لها، وجهاً لوجهٍ، قريبةًوضقنا بها، لما تناءى بنا المسْرىكأنا اصطُفينا بعدها، عن إرادةٍإلى الليلِ نطوي فيه وحشتنا الكبرىأعاتبُ! هذي طينتي محضُ شائبٍخليطٍ، فلا تحسبْ لشائبةٍ أمرا وكان الصكار وعبدالرزاق عبدالواحد، من بين أبناء جيلِهما، يُحسنان فنَّ «الإخوانيات»، ويتراشقان بها، بين حين وآخر. وإذا كان عبدالرزاق بارعاً في اللمسة الهجائية، فالصكار بارع في اللمسة الرقيقة المداعبة. وكنتُ أستحسن فنَّهما هذا، حتى لأزعم أن عبدالرزاق فيه أبلغ شأناً منه في قصائده الجدية، قبل أن تُفسده أطماع الجاه والمال في المدائح الرخيصة. وآمل أن يجدَ إرثُهما هذا من يأخذ به، يجمعه وينشره على الناس. هذه لحظةُ استعادة ووداع لصديقٍ مُقرّبٍ من يتامى البلد المخزن، تكتفي بلونِ الرماد عن تعدادِ فضائله في الخُلُق والخَلْقِ: قصيدة كان هذا الخَلْق، لوحةً أو براعةَ اختراع في حروف الطباعة.