عندما يتحدث "النعْي" الإيراني عن قتلى فيلق القدس في العراق، وآخرهم عقيد طيار اسمه شجاعت علمداري مورجاني، بأنهم سقطوا دفاعاً عن أضرحة آل البيت، وعندما يتحدث الإيرانيون عن قتلى هذا الفيلق دفاعاً عن نظام بشار الأسد بأنهم "الشهداء المدافعون عن ضريح السيدة زينب"، فهلْ هو تجنٍّ على الحقائق أنْ يُقال إن إيران هي التي وقفت وتقف وراء كل هذا العنف المذهبي الدامي الذي يضرب الآن بلاد الرافدين ويضرب سورية، والذي يتجسد صداه أزمة سياسية طاحنة حالت دون اتفاق اللبنانيين على رئيس جديد لهم. والسبب هو حزب الله الذي ذهب إلى جارة لبنان الشقيقة، سورية، لنفس هذه الحجج الآنفة الذكر.

Ad

والمأساة أن هذا الذي تقوم به إيران، إنْ في العراق وإنْ في سورية، هو ما دفع "السُّنة" بدورهم إلى التمترس طائفياً ومذهبياً، مما حرف الصراع في هاتين الدولتين عن مساره الفعلي بعيداً عن مسبباته الحقيقية، حيث هناك حكمٌ عائلي بقي مستمراً منذ عام 1970 ويرفض مَنْ انتهى إليه هذا الحكم التنازل عن حكم عائلته حتى بعد سقوط كل هذه الألوف المؤلفة من القتلى، وكل هذا الدمار والخراب، وحيث في بلاد الرافدين رئيس وزراء، ورغم أنه جاء إلى موقعه بالمصادفة وحلاً للخلاف بين الرؤوس الكبرى المتطاحنة في طائفته، فإنه يرفض الاستجابة لأغلبية القوى العراقية الفاعلة، ويصر بدعم الولي الفقيه على أن ولايته ستبقى إلى الأبد ترجمة للشعار نفسه الذي يرفعه بشار الأسد.

لقد قال السيد علي خامنئي في آخر تصريح له بهذا الخصوص: "إنه لا توجد هناك حرب شيعية - سنية، لا في العراق ولا في سورية"، وحقيقة إن كُل مَنْ هو غير مُبْتلٍ بهذا الداء يتمنى أن يكون هذا صحيحاً، إذْ إن أكبر طامة تحل بالمسلمين والعرب تحديداً هي أن يتحول الصراع في هذه المنطقة من صراع مع إسرائيل ومع الفقر والجهل والتشرذم والاستبداد إلى هذا الصراع البغيض المحتدم الآن بين أبناء الأمة الواحدة، والذي إنْ لمْ يتوقف، والواضح أنه قد لا يتوقف قريباً، فإنه سيحقق الهدف الإسرائيلي القديم والهدف الأميركي "الجديد" بتحويل دولنا الرئيسية إلى دويلات مذهبية وطائفية متناحرة في إطار "كومنولث" على رأسه الدولة الإسرائيلية، وكما أن بريطانيا تتربع على رأس الـ"كومنولث" البريطاني المعروف!

ولعل الذين يستهويهم هذا الفرز الطائفي والمذهبي وأقحموا اثنتين من أهم الدول العربية المركزية في أتونه لا يدركون أن الدور سيصل إليهم في النهاية وبخاصة أن بلدهم، إيران، عبارة عن لوحة، بل لوحات فسيفسائية متعددة المذاهب ولا نهائية الأعراق، وهُمْ يعرفون أن الفرقة الإسماعيلية التي من المفترض أنها إحدى الفرق الشيعية قد تشظت حتى بعد قيام الدولة الفاطمية إلى فرق بعضها تجاوز "داعش" و"النصرة" و"القاعدة" في الإجرام والقتل كـ"القرامطة" و"الحشاشين".

إن هناك الآن فعلاً ورد فعل، ويقيناً إن تفسخ سورية وتفسخ العراق، الدولتين العربيتين اللتين ورثتا الدولة العربية الأموية والدولة العباسية، لا على أساسٍ طبقيٍّ ولا سياسيٍّ، بين الاستبداد والديمقراطية، هو الكارثة التي لا أخطر منها كارثة، وهي كارثة ستنتقل بالتأكيد إلى إيران فهي ذات خاصرة رقيقة وهي بدورها تعاني أوجاعاً مذهبية وإثنية-عِرْقية كثيرة، وهذا كان يجب أن يردعها عن أن تلعب لعبة الطائفية في دولتين عربيتين سينتصر فيهما العامل القومي في النهاية على العامل الطائفي لا محالة.

إن من غير الممكن في وجود كل هذه التكتلات الكونية التي استجدت جميعها خلال العقود القليلة الأخيرة أن تصمد دويلتان مذهبيتان في العراق ودويلتان مذهبيتان وربما أكثر في سورية وأن تكون هناك ثلاث دول مذهبية في لبنان، وأن تحتمي كل هذه الدول بإسرائيل.

والغريب هنا أن الولايات المتحدة التي كانت، وعلى لسان أكثر من مسؤول، إنْ في هذه الإدارة البائسة وإن في الإدارة المتهورة التي سبقتها، قد تحدثت عن ضرورة تقسيم بلاد الرافدين إلى ثلاث دول، تحاول الآن، ولذرِّ الرماد في العيون، تبرير دعمها لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بالقول إن وجوده يحافظ على وحدة العراق ويحمي كيانه من التقسيم، وهذا غير صحيح ولا يمكن تصديقه أو الوثوق به.