يقسم بسالم حمّيش كتابه «عن سيرتَي ابن بطوطة وابن خلدون» إلى مقدمة وخمسة فصول، يضيء في الأول «ابن بطوطة ورحلة المتعة والتقوى» على سيرة ابن بطوطة ورحلاته في الشرق والغرب وبعض مغامراته في البلاد التي زارها، متعمقاً في صدقية هذه الروايات وصحتها. أما الفصل الثاني بعنوان «عن سيرة ابن خلدون المغربي»، فيتحدث فيه الكاتب عن ابن خلدون وأسفاره وكتاباته، فيما نجد في الفصلين الثالث والرابع مقتطفات من كتابات ابن بطوطة وابن خلدون توالياً.

Ad

رحالة الشهوة والتقوى

يتحدث المؤلف عن ابن بطوطة، فيقول عنه إنه رحالة الشهوة والتقوى، الجغرافي رغماً عنه، المؤرخ الإثنولوجي رغماً عنه وحتى صاحب مؤلف شيق كان يمكن ألا يوجد، وهو مثال أبلغ للنزعة الإغرابية في الثقافة العربية الإسلامية، وهي نزعة معتدلة رزينة، تنبني على إدراك العجيب والممتع، وكذلك الفرق والاختلاف المذهلين، ولكن من دون أن تعتريها أي تلذذية مرضية ولا أي مزايدة «تغريبية» مفرطة.

يضيف حمّيش أن عند رحالتنا لم ترق إلى مرئية، ومن ثم إلى مقروئية جيدة، ككل من القسطنطينية والصين، حيث صار في الأولى يغالب ارتباك بوصلته برؤية وادي سلا في البوسفور ورباط الفتح في «الغلطة» في العدوة الغربية من النهر، ولا يصف كنيسة آيا صوفيا إلا من الخارج لكونه أبى على نفسه السجود للصليب. أما عند زيارته الصين (الزيتون وصين كلان، والخنسا، وخان بالق) فكان ضائق الذرع، متوتر الخاطر، قلقاً على قيمه ومعاييره «بسبب غلبة الكفر عليها».

يلفت الكاتب إلى أنه ثمة في الرحلة عناصر كذب أبيض وتخييل وحتى عقول مبثوثة في بعض ثنايا النص، إلا أن ذلك كله لا يقلل في شيء من كون ابن بطوطة ضرب الشوط القياسي في تحويل آية قرآنية إلى أمر ومهمة «والله جعل لكم في الأرض بساطاً لتسلكوا منها سبلاً فجاجا».

عاش ابن بطوطة في القرن الثامن الهجري، حيث كان عصر انتكاسات كبرى قائمة على مسلسل فقدان الأندلس بفعل حرب الاسترداد المسيحي من جهة، وفي تبخر حلم توحيد المغرب الكبير وحكمه من مركز واحد من جهة أخرى. أما المشرق، الذي لم يمض وقت مديد على خروجه من الكابوس المغولي الأول المتوج بسقوط العاصمة العباسية بغداد 1258م كما من آخر الحروب الصليبية في 1291م، فقد كان مسرح صراع نفوذ وهيمنة طاحن بين الأتراك والمغول، إضافة إلى نيل القطرين نصيبهما من الطاعون الأعظم لمنتصف القرن ومن النكوص الاقتصادي والحضري والثقافي. احتاج ذلك العصر العصيب كما يسجل ابن خلدون «من يدون أحوال الخليقة وأجيالها والعوائد والنحل التي تبدلت لأهلها»، فكان القائم بهذه المهمة الكبرى هو هذا المؤرخ المفكر نفسه، الذي حولت له قوته النظرية أن يقول حالة عالمه المتصدعة، ويصف مصير الإنسان في لجج تغيرات الأرض وتقلباتها.

قاوم ابن بطوطة على طريقته قلقه من التصدعات السياسية والإقليمية الآخذة في العتو والبروز، أي بالسلوك السياحي في بساط الأرض وسبلها. وهذا السلوك لم يكن لمجرد الوقوف على العجائب والغرائب أو البحث عن الغنى والمتع، وإنما كان أيضاً، وهنا يكمن معنى الرحلة الفلسفي، في معاينة أرض الإسلام وأهلها داخل وحدة عقائدية روحية، يسهر على بقائها وإحياء وشائجها أرباب الزوايا والرُبط والخوانق من متصوفة، وأولياء ومريدين.

ابن خلدون المغربي

يتحدث المؤلف عن نفسية ابن خلدون التي طبعتها بنية المغرب وأحداثه. فعلى الصعيدين النفسي والسلوكي، وسمت آثار انتكاس الرؤى والتصورات بعلامات التصدع والاتباع. وعليه فإن مفهوم الانتكاس قابل لأن يُستلهم ليس من قراءة تاريخ العهد الوسيط المتأخر وحده، بل أيضاً من سيرة عبد الرحمن ابن خلدون المعنونة بـ{التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً». إن ما يستقرئه المؤلف من تلك السيرة هو أن الرجل عرف في حياته الخاصة أفدح الرزايا والهزات، ممثلة في فشة الغمم والموت من حوله، فواجهها بكثير من الصبر والثبات. كذلك نستقرئ من جهة أخرى أنه استوعب مكونات عصره التي أخضعته كغيره إلى قوانين الاجتماع والتأقلم الوسطي. ومن ثم فإن سلوكياته المتقلبة وتنكراته تنطبع في عمق الأطر المجتمعية والنفسية المأزومة التي بات يستمد معنى الحياة منها مع ما يلقاه المعنى من تطعيم وتحريف من قبل العقلية المتفككة السائدة والمتجردة عن التعلقات الوطنية المحدودة. وهكذا كان ابن خلدون يؤدي خدماته إلى سلاطين وأمراء العصر، ولو كانوا خصماء متصارعين من حفصيين ومرينيين وزيانيين ونصريين.

شوق نظري

يشير حمّيش إلى أن تحرير المقدمة كان يستدعي الطبيعة الصحراوية والهواء الطلق، أي الخلوة وما يشبه النفس الكوني، وذلك حتى يرصد صاحبها المرحلة التي بلغها التاريخ، ويكون نظرية تجريبية وأصيلة في الاجتماع البشري، وقبيلة أولاد عريف من الذواودة ذات الذاكرة الشفوية المترحلة، التي لا علم لها بما يدور في خلد ضيفها، وهبت هذا اللاجئ المبجل ما يحتاج إليه من أمن وهدوء. وهكذا كتب التاريخ على نحو مبتدع، يغذيه شوقه النظري ونزوعه البحثي، من خلال اعتزال غير صوفي بل ناتج من تخل سياسي... إنها ظروف سعيدة اجتمعت لابن خلدون كي يحقق بين التجربة وبين الفكر القرآني الأكثر توفيقاً في تاريخ التراث العربي الوسيط. وإن كان قد أفلح في هذا فلأنه استطاع أن يكون ليس المنقب الدقيق اللامع، والمفكر المقتدر المستطلع في العمق التاريخي بتضاريسه وحركيته، من حيث أسبابه «الأرضية لا النجومية» فقط، فتحت نظره الفاحص المتسع أحطنا علماً بمجموعات إنسانية كاملة متنوعة، سواء أكانت من المدينة أو من الجبل والتل أو من الشهب والصحراء. وعليه فابن خلدون، الشغوف بالتاريخ والمعترف به كواسطة بين الفرد والمجموع وبين العالم، كان يبحث في البنيات الأنموذجية حيث تترسخ قوانين حياة الناس، أي في العناصر المركزية للوجود التاريخي ونسائج المجتمع المدني والسياسي وقواعد حركة المنظومات.