القارئ لعلاقة بريطانيا مع جيرانها الأوروبيين بصفة عامة، وموقفها من اليورو بشكل خاص، يعرف ان سياسات الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، في هذا الشأن، جعلتها تبدو كالطفل المتمرد المنشق عن الأسرة الأوروبية الموحدة.
بل إن هذا الطفل ذهب إلى أبعد من ذلك، حين وضع أوروبا أمام مفترق طرق صعب جدا، عندما أعلن رئيس الوزراء البريطاني، في خطاب موجه للأوروبيين، رغبته في إعادة التفاوض على شروط ووضع بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، وطرح نتائج هذا التفاوض في استفتاء عام، بعد نجاحه في الانتخابات، في عام 2017. الأمر الذي أتي في وقت غير مناسب إطلاقا، حيث بدأت ملامح الاستقرار في منطقة اليورو، ما يعني أن آخر ما يحتاج إليه الأوروبيون الآن هو أن يأتي ما يكدر هذا الاستقرار من داخل الاتحاد الأوروبي.وتاريخيا، لم تكن بريطانيا داعمة لقيام الاتحاد الأوروبي، ومرت علاقتها معه بمنحنيات عدة تبلورت عبر سياسة "رجل في الداخل وأخرى في الخارج".تلك السياسات نفسها والتصعيد الأخير من جانب وزارة المالية البريطانية لهجومها على خطة حكومة اسكتلندا للاستقلال، مع اقتراب تصويت الاسكتلنديين، في 18 سبتمبر، على إنهاء الاتحاد القائم منذ 307 سنوات مع إنكلترا، هي ما تدرأ فكرة أن بريطانيا تخشى على الأوضاع المالية للاسكتلنديين، والتي، حسب الوزارة، ستسوء بعد الاستقلال. بل على العكس هي تخشى على أوضاع البريطانيين.إدارة جديدةوبينما قالت الوزارة، في بيان الاثنين الماضي، إنها -اسكتلندا- لا تأخذ في الحسبان التكلفة الكاملة لتشكيل إدارة جديدة قد تحمل دافعي الضرائب الاسكتلنديين بأعباء تتجاوز 1.5 مليار جنيه إسترليني، ما يعادل 2.5 مليار دولار، سبقته بتحذير أقوى في فبراير الماضي حين حذرت اسكتلندا بأنها ستفقد الجنيه الإسترليني إذا صوت الاسكتلنديون لصالح الاستقلال.ولعب حينها وزير المالية، جورج أوزبورن، على المخاوف الاسكتلندية من فقد الإسترليني، قائلاً إن الانفصال سيكلف الاسكتلنديين غالياً، ويلقي بهم في دوامة من عدم الاستقرار، إلا أن حكومة اسكتلندا هونت من التقرير قائلة إنه يشوبه "خلل عميق".واضافت الحكومة ان العديد من الهيئات العامة التي ستحتاجها اسكتلندا في حالة الاستقلال قائمة بالفعل ويمكن أن تضطلع بوظائف جديدة، مؤكدة أنها ستكون قادرة على توليد نمو اقتصادي أقوى بعد الاستقلال عن طريق تقنين الإنفاق على رعاية الطفولة والتعليم والتدريب وتقليص الضرائب على أرباح الشركات والنقل الجوي.إذن، أسكتلندا تتجه نحو إعلان استقلالها عن بريطانيا، وهي في ذلك تعتمد على قدراتها الاقتصادية الذاتية، ولن تتأثر بالسلب في حالة الاستقلال، فحسبما ذكرت تحليلات اقتصادية معتبرة فإن هذا البلد يمتلك كل المقومات التي تحتاج إليها دولة مستقلة باستثناء العامل الديمغرافي الذي سيطرأ عليه تغيير في العلاقة مع باقي المملكة المتحدة خلال السنوات الخمسين المقبلة.ملامح الاقتصادوتناولا لأهم ملامح الاقتصاد الاسكتلندي، يتضح أنه يعتمد أساسا على الصناعة والتجارة. وقد اكتسبت الصناعة أهمية منذ بداية الثورة الصناعية في إنكلترا خلال القرن الثامن عشر، وبها موارد طبيعية تتمثل في حقول الغاز الطبيعي والنفط في بحر الشمال، وترسبات محدودة من الفحم الحجري في المنخفضات الوسطى، وموارد مياه وفيرة في المرتفعات، حيث يستغل العديد من الأنهار في توليد الطاقة الكهربائية. ومن أهم مواردها أيضا مناطق صيد الأسماك الغنية في بحر الشمال.وتشكل الصناعة هناك 20% من الناتج الوطني الإجمالي، وأهم منتجات أسكتلندا الصناعية المواد الكيماوية والمعدات الإلكترونية والآلات الصناعية والمنتجات النفطية والصلب والأقمشة والمشروبات الروحية، وقد شهدت الصناعات النفطية، بما فيها صناعة البتروكيماويات، نموا سريعا في أسكتلندا إثر اكتشاف النفط والغاز الطبيعي في قاع الجزء الشمالي من بحر الشمال في الستينيات من القرن العشرين.وبدأت صناعات جديدة في أسكتلندا مؤخرا، وخاصة صناعة الإلكترونيات، تحل محل الصناعات التقليدية مثل استخراج الفحم الحجري وإنتاج الصلب، وقد ارتفع إنتاج الصناعة الإلكترونية أربعة أضعاف في الفترة بين 1979 و1989. وأسكتلندا تنتج نصف الحواسيب التي تنتجها بريطانيا وعشر الإنتاج الأوروبي.قطارات سريعةوتغطي شبكة جيدة من الطرق أنحاء أسكتلندا، وتربط طريق سريع رئيسي مدينتي غلاسكو وأدنبرة، كما تربط المدينتين بلندن، وتسير قطارات سريعة بين المدن الرئيسية في أسكتلندا وإنكلترا، أما أهم مطاراتها فتوجد في غلاسكو وأدنبرة وأبردين.ويعد مرفأ النفط في جزر شتلاند ثاني ميناء في المملكة المتحدة بعد لندن من حيث كمية الحمولات التي يستوعبها. ويمثل النفط أهم صادرات أسكتلندا، أما الصادرات الأخرى فتشمل المعدات الإلكترونية والآلات والأقمشة، وتشمل أهم وارداتها المواد الغذائية والمواد الخام. في حين تصل نسبة الأرض المستغلة زراعيا في أسكتلندا إلى 80%، وتغطي الغابات معظم ما تبقى من الأرض، وفي المنخفضات الوسطى، توجد بعض أجود الأراضي الزراعية في بريطانيا.إذن، بريطانيا على وشك أن تفقد هذا كله، بل أكثر، فربما تغيب عنها الشمس بالفعل، إذ حذرتها وكالة فيتش للتصنيف بأنها ستقوم بمراجعة التصنيف الائتماني السيادي للمملكة إذا صوت الاسكتلنديون بالموافقة على الاستقلال، ورأت ان تداعيات احتمال الموافقة على البقية الباقية من المملكة المتحدة (انكلترا وويلز وايرلندا الشمالية) مازالت في حاجة لتحليل وثيق نظرا لاحتمال وجود مخاطر وإن تكن متوسطة على الدين العام للبلاد والموارد المالية الخارجية وترتيبات العملة والقطاع المصرفي، كما حذرت مؤسسات مالية مثل ستاندرد لايف والبنك الملكي الاسكتلندي من أنهما قد يقومان بنقل مقراتهما في حالة الموافقة في الاستفتاء على استقلال أسكتلندا.وإعمالا، فعلى الطفل المتمرد ألا يدعي النضوج، وألا يروج إلى أنه يخشى على أحد أفراد أسرته، بل عليه أن يعترف بأنه يدافع عن مصالحه الشخصية.
اقتصاد
بريطانيا... طفل متمرد يدّعي النضوج
30-05-2014