طوال فترة معايشتي، ولا أقول مشاهدتي، فيلم {بنت مريم} لم أشعر مُطلقاً أنني بصدد فيلم روائي قصير لا يتجاوز زمن عرضه على الشاشة 27 دقيقة، لكنني حيال قصيدة سينمائية تقطر شجناً وسحراً وعذوبة، بل إنه، ومن دون مبالغة، صرخة في وجه التقاليد البالية، والمجتمع الذكوري، من خلال {بنت مريم} التي لا نعرف لها اسماً طوال الفيلم، كونها أنموذجاً لفتيات كثيرات لا نعرفهن، ولأنها تحمل على كاهلها هموم الفتاة الخليجية بوجه عام. فالطفلة التي تبلغ من العمر 15 عاماً (جسدت الدور الممثلة الصاعدة نيفين ماضي بتلقائية واحترافية) وجدت نفسها مُرغمة على أن تترك اللعب مع رفيقاتها، بعدما أوهمها أهلها أن عليها التأهب لاستقبال العيد، ولما ارتدت الفستان الأخضر فوجئت بأنها عروسٌ، وأنها مُجبرة على أن تُلقي بنفسها في أحضان زوج يكبرها بعقود!

Ad

مأساة إنسانية نسج تفاصيلها محمد حسن أحمد في سيناريو شديد التكثيف، وحوار يتسم بالشاعرية، وأخرجها سعيد سالمين المرّي ببراعة فائقة، ولغة بصرية رائعة. غير أن أهم ما حملته التجربة أن الصرخة جاءت من مبدعين إماراتيين لم يتحرجا من كشف المسكوت عنه في المجتمع الخليجي، وأعلنا انحيازهما إلى الفتاة الإماراتية؛ فالفيلم تعاطف مع {بنت مريم} لكن الصورة المأساوية تكتمل مع قصة الفتاة العشرينية (رشا العبيدي)، التي رفض شقيقها أن تتزوج من أحبت، وانتهى بها الأمر سجينة فقدت عقلها في غرفة مغلقة. فالطفلة التي تحكي (بلسان الراوي) كيف بلع البعض لسانه، وزوجها يجرها من شعرها، وينزع عنها ملابسها، ويغتصبها ثم يتركها فريسة البرد والخوف، والدم الذي لطخ ثيابها، ولم تفلت من براثنه سوى بالموت الذي رحمها منه، لا تختلف كثيراً عن الفتاة التي يتردد صراخها في القرية، وكأنها سوط يُلهب ظهور أهلها، من دون أن يهب أحدهم لإنقاذها من السجن والقهر الذي مارسه شقيقها ضدها؛ ففي كل بيت {بنت مريم} وعاشقة مقهورة.

هذه الأفكار الأقرب إلى العاصفة التي تضرب كل شيء في طريقها، وتحمل بذور التمرد في جوانبها، عبرت عن نفسها بصورة أخرى من خلال الصبي {أحمد} (حسين محمود)، الذي ينام في الساحات والمساجد، ويسير في شوارع القرية محتضناً شجرة لا تكبر ولا تموت، ارتبط بها منذ أن ولد، وكأنها قلبه، والكفيف {معتوق} (محمد إسماعيل) صوت الحق الذي فضح جبن وتخاذل أهل القرية، وبموته فقدت {بنت مريم} آخر ما تبقى من عائلتها مثلما فقد {أحمد} أمه التي تمنى على {معتوق} أن يبارك شجرته لتجتاز محنة مرضها.

جرأة الفيلم الذي لا يعتمد على البناء الأرسطي، وينطلق من طرح فكري شاعري؛ حيث الطفلة التي شاخت بسبب زيجتها، وتمنت لو صارت كالطائر المحلق في السماء، وتؤمن أن في عيني كل بنت حمامة ستطير ذات يوم، تأكدت بجرأة إخراجية، على صعيد المونتاج والموسيقى والمؤثرات الصوتية (طه العجمي) والتصوير (حسن الكثيري) والديكور والملابس (أحمد حسن أحمد)؛ فالبيوت القديمة والمحال العتيقة والجدران الآيلة للسقوط تعكس انهيار البنية الأساسية وتدين التقاليد البالية، والمطر يمثل الخير بينما نقطة المطر تُشبه دمعة العين. والموسيقى التصويرية أضفت شجناً وشاعرية بينما جاء صوت الكورال أشبه بالنواح الذي عمق الشعور بالمأساة، التي فرضت نفسها من خلال الهالة السوداء التي حفرت مكاناً تحت عيني {بنت مريم}، والإضاءة التي أهملت ما حولها، وأظهرتها وكأنها بقعة ضوء في الظلام أو بصيص نور في نهاية نفق الجهل والقهر والكبت.

ومن اللقطات العامة التي بدأ بها الفيلم، ورصدت معالم بيئة تقطر جمالاً، وصنعت صورة مُبهرة، انتقل المخرج، مع تفاعل الأزمة، إلى اللقطات القريبة التي تُعمق المأساة، وطوال الفيلم اعتمد الإظلام كوسيلة للانتقال البصري من مشهد إلى آخر، بوصفه الأنسب للفكرة واللغة والأجواء العاطفية، ولم يُفرط في اللجوء إلى الرموز والإسقاطات، التي اختزلها في القدرة النحاسية التي تستقبل ماء المطر، ورقصة الحرية تحت المطر بين الطفلة والفتاة التي أصيبت بمس من الجنون، بينما تحوطهما القضبان؛ فالصورة البصرية، عبر اللقطات الموحية، وزوايا التصوير المتنوعة، لم تقل شاعرية عن لغة الحوار المقتضب، بل عمقت هاجس الخوف، والرغبة في الخلاص.

على الوجه الآخر تراجعت قدرات المخرج سعيد سالمين المرّي كثيراً في ما يتعلق بالسيطرة على المجاميع، كما رأينا في مشهد تشييع جثمان والدة الصبي {أحمد}، حيث ظهر أحد الأطفال وهو يبتسم، وتفويت فرصة تحويل بعض الجمل الشاعرية (الطفلة تحكي كيف كانت تلعب حافية على قطرات المطر) و(الحمامة التي طارت من عيون بنت بللتها قطرة ماء) إلى صورة ساحرة على الشاشة؛ فالأمر المؤكد أن مشاهد كهذه كانت ستثري الفيلم كثيراً، لكن شيئاً من هذا لا يُقلل مُطلقاً من جمال وإبداع تجربة فيلم {بنت مريم}.