هل ما زلت على موقفك السابق بأن ثورات الربيع العربي ستكون عاملاً مساعداً في حل القضية الفلسطينية؟

Ad

للأسف لا، والسبب في تغير رأيي أن الخلافات دبت ونشبت الفتن في الدول العربية كافة التي شهدت ثورات، فلدينا تشكك صريح في قدرة الثورات على مواجهة الأطماع الصهيونية. كنا نظن أن ثورات الربيع خلصت العرب من كابوس الارتباط بالغرب ولكن حدث العكس، واستبشرنا خيراً بنجاح الثورة المصرية في إتمام المصالحة بين الفلسطينيين، فنحن نعرف أن النظام السابق في مصر لم يكن يسعى إلى إتمام المصالحة، ولهذا روج دائماً لعدم إتمامها، ولكن بمرور الوقت أصبح من الواضح أن أعداء الأمة هم المستفيد الأكبر من ثورات الربيع العربي حتى يومنا هذا. فاليوم يستغل الغرب الفتنة التي ضربت العالم العربي للتبجح والإصرار على دعم الصهاينة على حساب القضية الفلسطينية، ولم يستطع العرب أن يقولوا إن الكيان الصهيوني أسس وفق مؤامرة غربية على حساب الأرض الفلسطينية العربية، في كارثة مستمرة حتى هذه اللحظة.

مَنْ مِن وجهة نظرك المسؤول عن تحويل الربيع العربي إلى فتنة سقط فيها الجميع؟

لا بد من أن نعي أن نجاح الثورات العربية الأولى، أقلق كثيرين لأن أعداء الأمة الإسلامية يعلمون أن زوال نظام مبارك في مصر، سيتبعه تحسن سريع في العلاقات بين القاهرة وطهران، وهو ما يصب في صالح الوحدة الإسلامية. كذلك الحال بالنسبة إلى بقية الدول العربية التي تطالب فيها الثورات بتغيير الأوضاع، وهذا يعني عودة فكرة الوحدة الإسلامية إلى الطرح بقوة في المشهد العربي، وهو ما يخيف أعداءنا، ويبدو أن الغرب لم يجد أمامه سوى بث الفتن كوسيلة للقضاء على نتائج الثورات المباركة، وإلا بماذا نفسر هذا الاحتقان الطائفي الذي ظهر من العدم في مصر. فبعد أن كان المسلم يصلي في حماية المسيحي في ميدان التحرير، والمسيحي ينام وكنيسته في حماية المسلمين، نرى بعض الجهلاء الآن يهدمون كنيسة والبعض الآخر يشتبك في خلافات وهمية. لذلك أرى أن ثمة مخططاً خبيثاً لجر البلاد العربية والإسلامية إلى مستنقع جديد، وهو مستنقع الفتنة ولهذا فالحذر ثم الحذر في هذه الفترة الدقيقة.

لكن ثمة من يطالب بعدم الانسياق وراء نظرية المؤامرة؟

لا بد من الاعتراف أن الشواهد والأدلة كافة تؤكد أن ما تتعرض له الدول الإسلامية بعد ثورة عدد من شعوبها للتخلص من أنظمة الحكم الفاسدة، هي محاولات لجرّ تلك الشعوب إلى آتون الفتنة، سواء كانت طائفية أو مذهبية، كي لا يحصد المسلمون ولا الأقليات في المنطقة نتيجة إيجابية لثوراتهم. وما يحدث اليوم في مجتمعات عربية كثيرة يعيدنا إلى مناقشة دور الأيادي الخارجية الأخرى، وتحديداً الصهيونية العالمية التي تريد أن تفتِّت البلاد الإسلامية والعربية من خلال إثارة المشاكل والنَّعرات الطائفية ويأتي ما يحدث في فلسطين  في هذا السياق. وللأسف، ربما يحدث بعض الاستجابة سواء بقصد أو من غير قصد، بسبب الجهل الديني سواء لدى هذا الطرف أو ذاك، لأن الأصل في الإسلام أو المسيحية هو السلام والأخلاق الحميدة.

كيف نواجه هذا النوع من الفتن؟

على كل مسلم في البلاد الإسلامية كافة، خصوصاً العلماء منهم، الدعوة إلى مواجهة الفتن، وشرح وسائل التصدي لها، من خلال فتح مجالات التعبير عن الرأي بحرية، بعيداً عن الإثارة والتخريب، ويتم ذلك بصورة حضارية، فهذا واجب ديني وقومي، وعلى رجال الدين أن يشاركوا في الحوار، ويتقدموا الصفوف لأجل الدعوة لحماية الوطن العربي في هذه المرحلة الصعبة. كذلك على الدعاة أن يكونوا إيجابيين، ويتفاعلوا مع نبض الشارع، ويسهموا في حث الناس وتوعيتهم بالمخاطر التي تهدد أمن المجتمع، فهذه وظيفتهم الأساسية منذ عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم).

والقضاء على الفتن التي يحاول البعض تصديرها لنا؛ يقتضي منا ضرورة الوقوف بقوة أمام الأمية الدينية، التي انتشرت بشكل كبير في مجتمعاتنا، فالجميع يظن أنه علامة ويفتي من دون علم، ووصل الأمر إلى قيام بعض الجهلاء بتنفيذ فتاويهم بالقوة مثلما فعل التكفيريون الذين حاولوا هدم أضرحة آل البيت. ولهذا لابد من العمل على التخلص من الأمية الدينية، ونشر صحيح الإسلام الوسطي المعتدل الذي يقبل المذاهب والأديان كافة، ولا يقصي أحداً أو فصيلاً. ولا بد أن يعي كل مسلم أن ثمة من يتربص بمجتمعه ويحاول استعماره، مع التركيز على أن الاستعمار لم يعد استعماراً عسكرياً كما كان قديماً، ولكنه استعمار بطريقة فرق تسد يعتمد زرع الفتنة بين أبناء الوطن الواحد، كما حدث في مصر من خلق الفتنة بين المسلمين وبين المسيحيين، والفتنة بين السنة وبين الشيعة في العراق، ويروج لها في أوصال العالم الإسلامي.

نريد أن نعرف معنى مصطلح الفتنة في الإسلام بعدما زاد استخدامه في الفترة الأخيرة؟

الفتنة كلمة مشتركة تقع على معان كثيرة من بينها الشرك، وهو أعظم الفتن كما قال الله تعالى: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ». وتطلق الفتنة أيضاً على الاختبار والامتحان كما قال جل وعلا: «نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةًْْ»، يعني اختباراً وامتحاناً، وقال جل وعلا: «إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ»، يعني اختباراً وامتحاناً حتى يتبين من يستعين بالأموال والأولاد في طاعة الله، ومن يقوم بحق الله، ويتجنب محارم الله ويقف عند حدود الله ممن ينحرف عن ذلك ويتبع هواه. كذلك يقع مفهوم الفتنة على المصائب والعقوبات كما قال تعالى: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً»، وقد جاء عن الزبير بن العوام (رضي الله عنه)  أنه قال: «ما كنا نظن أنها فينا حتى وقعت»، وكانت بسبب مقتل عثمان رضي الله عنه فإن قوماً جهلة وظلمة قتلوا عثمان بن عفان (رضي الله عنه) بالشُبه الباطلة والتأويلات الفاسدة، ثم عمت هذه الفتنة وعظمت وأصابت قوماً ليست لهم بها صلة، وليسوا في زمرة الظالمين وجرى بسببها ما جرى بين علي ومعاوية (رضي الله عنهما).

وفى أغلب الأحوال تقع الفتنة أيضاً بسبب الشبهات والشهوات فكم من فتن وقعت لكثير من الناس بشبهات لا أساس لها كما جرى لفرق الجهمية والمعتزلة والشيعة والمرجئة وغيرها من طوائف أهل البدع، الذين فُتنوا بشبهات أضلتهم عن السبيل، وخرجوا عن طريق أهل السنة والجماعة وصارت فتنة لهم ولغيرهم إلا من رحم الله.

ما هو طريق النجاة من الفتن كما بينه الدين الإسلامي؟

التمسك بكتاب الله وسنة نبيه، كما روي ذلك عنه (صلى الله عليه وسلم)، عندما سئل عن المخرج من الفتن، فقال: «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وفصل ما بينكم...»، والمقصود أن كل أنواع الفتن لا نجاة منها إلا بالتفقه في كتاب الله وسنة رسوله، ومعرفة منهج سلف الأمة من الصحابة (رضي الله عنهم) ومن سلك سبيلهم من أئمة الإسلام ودعاة الهدى. ولا بد للقيمين على دعوة المسلمين من أن يستقيموا على دين الله، وأن يحافظوا على شريعته، وأن يتعاونوا على البر والتقوى. وبهذا تتحد صفوفهم وتتوحد كلمتهم ويكونون جسداً واحداً، وبناء واحداً، ومعسكراً واحداً ضد أعدائهم.

أما إذا تعصب كل واحد لمذهبه أو لشيخه أو لما يرى مما يخالف فيه سلف الأمة، فإن هذا يؤدي إلى الفرقة، فالواجب على علماء الإسلام وعلى دعاة المسلمين وعلى ولاة الأمر أن يتكاتفوا جميعاً لدعوة الناس إلى الحق، والتمسك به والاستقامة عليه، وأن يكون هدف الجميع طاعة الله ورسوله والالتفاف حول كتاب الله وسنة رسوله، والحذر مما يخالف ذلك فهذا هو الطريق الأوحد لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفهم ونصرهم على عدوهم.

هل توافق على تشبيه الظروف التي تمر بها الأمة الإسلامية بمشهد سقيفة بني ساعدة؟

فعلاً، يؤرخ البعض للفتنة الكبرى بحادثة «السقيفة»، لأنها أول خلاف وقع بين المسلمين الأوائل في موقف جلل لم يشهدوا مثله بعد وفاة رسول الله، ما وضعهم في مشهد اختبار وامتحان عسير إزاء معتقدهم الديني في مواجهة المستجد السياسي في ما يتعلق بمصير الجماعة الإسلامية بعد وفاة الرسول، فحزنهم العميق على النبي نسخه أبو بكر بمقولته: «من كان يعبد محمد فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فهو حي لا يموت». هنا استقام المعتقد الديني في النفوس.

أما الاختلاف السياسي فكان لأبي بكر الدور في حسمه أيضاً، عندما قال: «العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش». هنا برز عمر ليبايع أبا بكر الصديق، فاستقام أمر خليفة رسول الله، ليتصدى الصديق ومعه بقية الصحابة لحروب الردة والتي كانت فتنة كادت أن تصيب الإسلام، لولا أن وقف المسلمون كالبنيان المرصوص.

اليوم تعيش دول عربية كثيرة الأزمة نفسها، حيث تريد الشعوب العربية التغيير السياسي وتصحيح أوضاع أوطانه بالخروج من نفق الأزمات والفساد، وهو ما لم يتيسر إلا من خلال انتفاضات شعبية كبيرة، سميناها ثورة فكــــان أن اصطف المجتمع بغالبيته في مشهد ثوري غير مسبوق في عدد من الدول العربية. ولكن للأسف، لا يزال مأزق التغيــــير قائماً في الدول العربية كافة بمظاهره الكارثية كلها، ومع ذلك فجميع هذه البلــــدان تسود فيها مظاهر الفوضى الأمنية وضعف مؤسسات الدولة وانتشار الفساد وانهيار الخدمات العامة، بل وانهيار أو اهتزاز لمنظومة الأخلاق والقيم الدينية. وللأسف فقد حمل هذا الصراع معه نمطاً من العنف المشرعن دينياً، ونشر الكراهية والفرقة على أساس ديني ومذهبي وطائفي وقبلي. هنا تجلت الفتنة بمعانيها ودلالاتها، وهنا تم استدعاء الشواهد التاريخية لتكون في صفوف المتخاصمين والمتصارعين، وكل يفسرها بطريقته ولصالح مشروعه.

متى يجب على المسلم اعتزال الناس خشية الوقوع في الفتنة؟

الأصل في المسلم أن يخالط الناس، داعياً إلى الخير ومحذراً من الوقوع في أسباب الشر، وأن يصبر في سبيل تحقيق هذه الرسالة النبيلة على ما يلقاه منهم من إيذاء واعتداء، فإن ذلك من عزم الأمور. ولا ينبغي للمسلم أن يعتزل محيط الناس وهو يعتقد، أو يغلب على ظنه أن ثمة وسيلة نافعة لإصلاحهم، بوسعه وإمكانه أن يقوم بها في دنيا وجودهم وفي واقع حياتهم، فإن اعتزلهم وهو يملك القدرة على تلك الوسيلة الإصلاحية فقد فوت على نفسه أجراً عظيماً.

أما إذا ضربت الفتنة أطنابها في الأرض، واستعصت على الحل، ولم يبق للمسلمين جماعة ولا إمام، وليس أمام المسلم من خيار البتة: إما البقاء في محيط الناس مع تضييع دينه، وإما الفرار من محيطهم للحفاظ على الدين وسلامة العقيدة، فإن الاعتزال حينئذ واجب؛ لأن الحفاظ على الدين واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

 ومما يدل على وجوب الاعتزال في هذه الحالة ما ثبت في صحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى من حديث الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان (رضي الله عنه) قال: «كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم؛ وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟، قال: قوم يهدون بغير هدى تعرف منه وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟، قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟، قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟، قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك».

 وما ثبت في صحيح الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- من حديث الصحابي الجليل أبي بكر -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله: «إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه».

في سطور

ولد الشيخ تيسير التميمي في البلدة القديمة في الخليل في فلسطين عام 1952، وتلقى تعليمه الأساسي في مدن فلسطينية عدة حيث تنقل مع والده الذي كان يعمل قاضياً شرعياً. بعدما أنهى تعليمه في فلسطين انتقل إلى مصر حيث التحق بالأزهر الشريف، وتخرج في جامعته عام 1975، بعد حصوله على الإجازة العالية (الليسانس) في الشريعة والقانون، بعدها حصل على درجة الماجستير في الفقه والتشريع عام 1996 من جامعة «النجاح» الوطنية في نابلس، كذلك حصل على درجة الدكتوراه في الفقه المقارن من معهد الدعوة الجامعي، في بيروت عام 2006.

عُيِّن التميمي رئيساً للمحكمة الشرعية العليا ورئيساً للمجلس الأعلى للقضاء الشرعي في دولة فلسطين في 2003، وعمل في المحاكم الشرعية قاضياً ثم مفتشاً للمحاكم الشرعية ومديراً لها ثم نائباً لقاضي القضاة وقائماً بأعماله. ثم عين قاضياً لقضاة فلسطين في 25 ديسمبر 2012. وهو عضو في مجلس أمناء جامعة «الخليل»، وأسس تخصص ماجستير القضاء الشرعي في كلية الدراسات العليا. كذلك عمل محاضراً غير متفرغ في جامعة «الخليل» في كلية الدراسات العليا لطلبة الماجستير في القضاء الشرعي، وكلية الشريعة، ومحاضراً غير متفرغ في جامعة القدس (أبو ديس) في كلية الحقوق.

وألف التميمي كتباً عدة من بينها: «أول إقطاع في الإسلام، الطلاق بين تعسف المطلق وتفريق القاضي، رحلة حوار، التعددية الدينية والمذهبية والقومية في الإسلام».